التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ
٢٩
قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ
٣٠
يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
٣١
وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٣٢
-الأحقاف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "النفر" بالفتح: الجماعة من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة ولا يُقال نفر فيما زاد على عشرة، والرهط والقوم والعشيرة والعشر معناهم الجمع، ولا واحد لهم من لفظه، وهو للرجال دون النساء. قاله في المصباح. و { من الجن } نعت للنفر، وكذا { يستمعون }.
يقول الحق جلّ جلاله: { و } اذكر { إِذ صرفنا إِليك نفراً من الجن } أي: أملناهم إليك، وقبلنا بهم نحوك، وهم جن نصيبين، أو جن نينوى، قال في القاموس: "نِينوى" بكسر أوله، موضع بالكوفة، وقرية بالموصل ليونس عليه السلام. هـ. { يستمعون القرآن } منه عليه السلام { فلما حضروه } أي: الرسول صلى الله عليه وسلم، أو القرآن، أي: كانوا منه حيث تمّ وفرغ من تلاوته، { وَلَّوا إِلى قومهم منذرين } مقدّرين إنذارهم عند رجوعهم إليهم.
رُوي: أن الجنَّ كانت تسترق السمع، فلما حُرست السماء، ورُموا بالشُهب، قالوا: ماهذا إلا لأمر حديث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، لتعرفوا ما هذا، فنهض سبعة أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى، منهم: "زوبعة" فمضوا نحو تهامة، ثم انتهوا إلى وادي نخلة، فوافقوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي صلاة الفجر، فستمعوا القرآن، وذلك عند منصرفه من الطائف، حين ذهب يدعوهم إلى الله، فكذّبوه، وردُّوا عليه، وأغروا به سفاءهم، فمضى على وجهه، حتى وصل إلى نخل، فصلّى بها الغداة، فوافاه نفر الجن يصلي، فاستمعوا لقراءته، ولم يشعُر بهم، فأخبره الله تعالى باستماعهم.
وقيل: أمره اللّهُ تعالى أن يُنذر الجن، ويقرأ عليهم، فصرف الله إليه نفراً منهم، وجمعهم له، فقال صلى الله عليه وسلم:
"إني أُمرت أن أقرأ على الجن، فمَن يتبعني؟ قالها ثلاثاً، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود، قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة، في شعب الجحون، فخطّ خطّاً، فقال: لا تخرج عنه حتى أعود إليك، ثم افتتح القرآن، وسمعت لغطاً شديداً، حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي، وغشيته أسوِدة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم تتقطع كقطع الحساب، ذاهبين، ففرغ صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فقال: أنمتَ؟ فقلت: لا والله، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول: اجلسوا، فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت شيئاً؟ قلت: نعم، رجالاً سوداً، في ثياب بيض، قال: أولئك جن نصيبين" وكانوا اثني عشر ألفاً، والسورة التي قرأ عليهم: { اقرأ باسم ربك }.
فلمَّا رجعوا إلى قومهم { قالوا يا قومنا إِنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى } قيل: قالوا ذلك لأنهم كاناو على اليهودية، وعن ابن عباس: إن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام وهو بعيد. حال كون الكتاب { مُصدّقاً لما بين يديه يهدي إِلى الحق } من العقائد الصحيحة، أو إلى الله، { وإِلى صراطٍ مستقيم } يُوصل إلى الله، وهو الشرائع والأعمال الصالحة.
{ يا قومنا أجيبوا دَاعِيَ الله } وهو محمد صلى الله عليه وسلم، { وآمِنوا به } أي: بالرسول أو القرآن، وصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعدما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم؛ لتلازمهما، دعوهم إلى ذلك بعد بيان حقيقته واستقامته، ترغيباً في الإجابة، ثم أكدوه بقولهم: { يغفر لكم من ذنوبكم } أي: بعض ذنوبكم، وهو ما كان في حق خالصٍ لله تعالى، فإنّ حقوق العباد لا تُغفر بالإيمان، وقيل: تغفر. { ويُجركمْ من عذابٍ أليم } موجع.
واختلف في مؤمني الجن، هل يُثابون على الطاعون، ويدخلون الجنة، أو يُجارون من النار فقط؟ قال الفخر: والصحيح أنهم في حكم بني آدم، يستحقون الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، وهو قول مالك، وابن أبي ليلى، وقال الضحاك: يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. هـ. ويؤده قوله تعالى: { وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } كما تقدّم في الأنعام.
{ ومَن لا يُجِبْ داعيَ الله فليس بمعجزٍ في الأرض } أي: لا ينجي منه مهرب، وإظهار "داعي الله" من غير اكتفاء بضميره، للمبالغة في الإيجاب، بزيادة المهابة والتقرير وتربيته، وإدخال الروعة. وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض؛ لتوسيع الدائرة، أي: فليس بمعجز له تعالى وإن هرب في أقطار الأرض ودخل في أعمالقها. { وليس له من دونه أولياءُ } ينصرونه من عذاب الله، وهو بيان لاستحالة نجاته بواسطة، إثر بيان استحالة نجاته بنفسه، وجمع "الأولياء" مبالغة، إذا كان لا ينفعه أولياء، فأولى واحد. { أولئك } الموصوفون بعدم إجابة داعي الله { في ضلال مبين } أي: ظاهر: بحيث لا تخفى ضلالته على أحد، حيث أعرضوا عن إجابة مَن هذا شأنه، وجمع الإشارة باعتبار معنى "من"، وأفرادَ أولاً باعتبار لفظها.
الإشارة: قد استعملت الجن الأدب بين يديه صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: أنصتوا، فالجلوس مع الأكابر يحتاج إلى أدب كبير، كالصمت، والوقار، والهيبة، والخضوع، كما كانت حالة الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم أنصتوا كأنما على رؤوسهم الطير. قال الشيخ أبو الحسن رضي لله عنه: "إذا جالست الكبراء فدع ما تعرف إلى ما لا تعرف، لتفوز بالسر المكنون" فإذا انقضى مجلس التذكير رجع كل واحد منذراً وداعياً إلى الله كلَّ مَن لقيه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه:
"ليبلغ الشاهد الغائب" فمَن بلغه ذلك واستجاب ربح وغنم، ومَن لا يجب داعي الله خاب وخسر، والاستجابة أقسام، قال القشيري: فمستجيبٌ بنفسه، ومستجيبٌ بقلبه، ومستجيبٌ بروحه، ومستجيبٌ بسرِّه، ومَن توقف عند دعاء الداعي إليه، ولم يُبادر إلى الاستجابة هُجِرَ فيما كان يُخَاطب به. هـ.
قلت: المستجيب بنفسه هو المستجيب بالقيام بوظائف الإسلام، والمستجيب بقلبه القائم بوظائف الإيمان، والمستجيب بروحه القائم بوظائف الإحسان، والمستجيب بسره هو المتمكن من دوام الشهود والعيان، وقول: هجر فيما يُخاطب به، أي: كان يُخاطب بملاحظة الإحسان، فإذا لم يبادر قِيد بسلاسل الامتحان. والله تعالى أعلم.
ثم بَرْهن على قوله، فليس بمعجزة في الأرض، فقال: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ }.