التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ
١٦
وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ
١٧
فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَٰهُمْ
١٨
-محمد

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { آنفاً }: قال الزمخشري ومَن تبعه: ظرف، أي: الساعة، وقال أبو حيان: لا أعلم أحداً عدّه من الظروف، وجوَّز "مَكيّ" فيه الظرف والحالية. قال الهروي: "آنفاً" مأخذوة من: ائتنفت الشيء: إذا ابتدأته، وروضة أنُفٌ: إذا لم تُرعَ. المعنى: ماذا قال في وقت يقرب من وقتنا؟ و { أن تأتيهم }: بدل اشتمال من الساعة.
يقول الحق جلّ جلاله: { ومنهم مَن يستمعُ إليك } وهم المنافقون، كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمعون كلامه ولا يَعُونَه، ولا يُراعونَه حق رعايته، تهاوناً منهم، { حتى إِذا خرجوا من عندك قالوا للذين أُوتوا العلم } من الصحابة رضي الله عنهم: { ماذا قال آنفاً } ما الذي قال الساعة؟ على طريقة الاستهزاء، أو: ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه؟
وقال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، ويعيب المنافقين، فسمع المنافقون قوله، فلما خرجوا من المسجد، سألوا ابنَ مسعود عما قال النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء. وقال ابن عباس: "أنا من الذين أُوتوا العلم، وقد سُئلت فيمن سُئل". ويقال: الناس ثلاثة: سامع عامل، وسامع غافل، وسامع تارك.
{ أولئك الذين طبع اللّهُ على قلوبهم } لعدم توجهها إلى الخير أصلاً، { واتبعوا أهواءهم } الباطلة، فلذلك فعلوا ما فعلوا، مما لا خير فيه، { والذين اهتدوا } إلى طريق الحق { زادهم } الله بذلك { هُدىً } علماً وبصيرة، أو شرْح صدر بالتوفيق والإلهام، أو: زادهم ما سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم هدايةً على ما عندهم، { وآتاهم تقواهم } أعانهم عليها، أو: آتاهم جزاء تقواهم، أو: بيَّن لهم ما يتقون.
{ فهل ينظرون } أي: ما ينتظرون { إِلا الساعةَ أن تأتيهم بغتةً } أي: تُباغِتهم بغتةً، وهي الفجاءة، والمعنى: أنهم لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية، ولا بالإخبار بإتيان الساعة، وما فيها من عظائم الأهوال، وما ينظرون إلا إتيان نفس الساعة بغتة، { فقد جاء أشراطُها } علاماتهان جمع: شَرَط بالتحريك، بمعنى: العلامة، وهي مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وانشقاق القمر، والدخان، على قول. وقيل: قطع الأرحام، وقلة الكِرام، وكثر اللئام، فقوله تعالى: { فقد جاء أشراطها } تعليل لمفاجأتها، لا لمطلق إتيانها، على معنى: أنه لم يبقَ من الأمور الموجبة للتذكير أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذ قد جاء أشراطها، فلم يرفعوا لها رأساً، ولم يعدوها من مبادئ إتيانها؛ فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة.
{ فأنَّى لهم إِذا جاءتهم ذِكراهم } قال الأخفش: التقدير: فأنَّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم، أي: فمن أين لهم التذكير والاتعاظ إذا جاءتهم الساعة؟ فـ"ذكراهم": مبتدأ، و"أنَّى": خبر مقدم، و"إذا جاءتهم": اعتراض، وسط بينهما، رمز إلى غاية سرعة مجيئها، والمقصود: عدم نفع التذكير عند مجيئها، كقوله تعالى:
{ يَوْمَئِذ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [الفجر: 23].
الإشارة: مجلس الوعظ والتذكير، إن كان المذكِّر من أهل التنوير، نهض المستمع له إلى الله قطعاً، لكن ذلك يتفاوت على قدر سريان النور فيه قطعاً، فمنهم مَن يصل النور إلى ظاهر قلبه، ومنهم مَن يصل إلى داخل القلب، ومنهم مَن يصل إلى روحه، ومنهم مَن يصل إلى سره، وذلك على قدر التفرُّع والاستعداد، فمَن وصل النورُ إلى ظاهر قلبه نهض إلى العمل الظاهر، وكان بين حب الدنيا والآخرة، ومَن وصل إلى قلبه نهض بقلبه إلى الله، ورفض الدنيا وراءه، ومَن وصل إلى روحه انكشف عنه الحجاب، ومَن وصل إلى سره تمكن من شهود الحق.
وفي الحِكَم: "تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم، فحيثما سار التنويرُ وصل التعبير"، وهذا إن حضر مستفيداً، وأما إن حضر منتقداً، فهو قوله تعالى: { ومنهم من يستمع إليك... } الآية، والذين اهتدوا لدخول طريق التربية زادهم هُدىً، فلا يزالون يزيدون تربيةً وترقيةً إلى أن يصلوا إلى مقام التمكين من الشهود. قال القشيري: والذين اهتدوا بأنواع المجاهدات زادهم هُدىً لأنوار المشاهداتْ، واهتدوا بتأمُّل البرهان، فزادهم هُدىً برَوْح البيان، أو اهتدوا بعلم اليقين، فزادهم هُدىً بحق اليقين. هـ.
ثم ذكر سبب الهداية وأساسها، فقال: { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ }.