التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
٤
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
٥
وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
٧
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
٨
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ
٩
-محمد

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { فضَرْب }: مصدر، نائب عن فعله، مضاف إلى مفعوله، و { مَنّاً } و { فِدَاءً }: مصدران لمحذوف، و { الذين كفروا }: مبتدأ حُذف خبره، وهو العامل في المصدر، أي: والذين كفروا فأتعسهم تعساً، و { أضل أعمالهم }: عطف على الخبر المحذوف.
يقول الحق جلّ جلاله: { فإِذا لقيتم الذين كفروا } في المحاربة { فَضَرْبَ الرقابِ } أصله: فاضربوا الرقاب ضرباً، فحذف الفعل وناب عن مصدره؛ للاختصار، مع إعطاء معنى التوكيد، لدلالة نصبه على مؤكده، وضرب الرقاب عبارةٌ عن مطلق القتل، والتعبير به عن القتل تصوير له بأشنع صورة وتهويل لأمره، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون، { حتى إِذا أَثخنتموهم } أكثرتم فيه القتل، وأغلظتموه، من: الشيء الثخين، وهو الغليظ، أو: أثقلتموهم بالجِراح وهزمتموهم، { فشُدُّوا الوَثاقَ } أي: فأسِروهم، وشُدوا وثاقهم، لئلا يتفلتوا، والوثاق بالفتح والكسر: ما يشد به. فإذا أسرتموهم فتخيّروا فيهم { وإِما فِدَاءً } أن تفدوا فداءً، والمعنى: التخيُّر بين الأمرين بعد الأسر، بين أن يَمُنُّوا عليهم فيطلقوهم، وبين أن يُفادوهم، ومذهب مالك: أن الإمام مُخَيَّر في الأسارى بين خمسة، وهي: المنّ، والفداء، والقتل، والاسترقاق، وضرب الجزية، وقيل: لا يجوز المَن ولا الفداء؛ لأن الآية منسوخة بقوله:
{ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5] فيتعين قتلهم، والصحيح أنها محكمة، ومَذْهَب الشافعي: أن الإمام مُخير بين أربعة: القتل، والاسترقاق، والفداء بأسارى المسلمين، والمنّ. ولعل الجزية عنده خاصة بأهل الكتاب.
ومذهب أبي حنيفة: التخيير بين القتل والاسترقاق فقط، قال: والآية منسوخة؛ لأن سورة براءة آخر ما نزل. وعن مجاهد: ليس اليوم مَنّ ولا فداء، والمراد بالمنّ في الآية.
أن يمنّ عليهم بترك القتل، فيسترقوا، أو يمنّ عليهم بإعطاء الجزية. هـ.
والمشهور: مذهب مالك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل عقبةَ بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، يوم بدر صبراً، وفادى سائر الأسارى، ومَنَّ على ثمامة بن أثال الحنفي، وهو أسير، وارتق نساء بني قريظة، فابعهم، وضرب الجزية على نصارى نجران ومجوس هاجر.
ثم ذكر غاية الحرب فقال: { حتى تضع الحربُ أوزارها } أي: اضربوا رقابهم حتى تضع الحرب أثقالها، وآلاتها، التي لا قوم إلا بها، كالسلاح والكراع، وذلك حيث لم يبقَ حرب، بأن تضع أهل الحرب عُدتها، وقيل: { أوزارها } آثامها، يعني: حتى يترك أهل الحرب المشركين شركهم، بأن يُسلموا جميعاً. والمختار: أن المعنى: أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يظهر الإسلام على سائر الأديان، ويؤمن أهل الكتاب، طوعاً أو كرهاً، ويكون الدين كله للّه، فلا يحتاج إلى قتال. وقال الحسن: معناه،: حتى لا يُعبد إلا الله. وقال ابن عطية: ظاهر اللفظ: أنها استعارة، يُراد بها التزام الأمر كذلك أبداً، كما تقول: أنا أفعل ذلك إلى يوم القيامة. هـ. فالغاية بـ"حتى" راجعة إلى الضرب والشد، وما ترتب عليه من المنّ والفداء.
{ ذلك } الأمر ذلك، أو افعلوا ذلك، { ولو يشاء اللّهُ لانتصرَ } لانتقم { منهم } بغير قتال؛ بأن ينزل بهم أسباب الهلاك والاستئصال، كالخسف أو الرجف أو غير ذلك، { ولكن } أمركم بالقتال { ليَبلُوا بعضَكم ببعض } أي: المؤمنين بالكافرين، فأمَرَهم بالجهاد ليستوجبوا الثواب العظيم، وليسلم مَن سبق إسلامه من الكافرين. { والذين قاتلوا في سبيل الله } لإعلاء كلمة التوحيد، لا لغرض آخر، { فلن يُضِلَّ أعمالَهم } فلن يضيعها.
{ سيهديهمْ } في الدنيا إلى طريق الرشد والصواب، وفي الآخرة إلى جزيل الثواب وقيل: يهديه إلى جواب منكر ونكير، { ويُصلحُ بالَهم } بأن يَقبل أعمالهم ويُرضي خصماءهم، { ويُدخلهم الجنةَ عَرَّفها لهم } . قال مجاهد: عرّفهم مساكنهم فيها؛ حتى لا يحتاجوا إلى دليل لها، أو: طَيَّبها، من: العَرف، وهو طيب الرائحة، ويمكن الجمع: بأن عَرْف المحل يهدي صاحبَه إلى جنته ومحله.
{ يا أيها الذين آمنوا إِن تنصروا اللهَ } بنصر دينه وإظهار شريعة نبيه { ينصركمْ } على عدوكم، ويفتح لكم، { ويُثبت أقدامكم } في مواطن الحرب ومواقفها، أو على محجة الإسلام، { والذين كفروا فتعساً لهم } أي: فيقال: تعساً لهم، والتعس: الهلاك، أو السقوط والانحطاط، أو العثار، أو البُعد. وقال ابن السكيت: التعس: أن يجر على وجهه. هـ. أي: أتعسهم الله تعساً، أي: أهلكهم وأبعدهم. وقال ابن عباس: "في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالتردي في النار". والمراد بالذين كفروا عام، وقيل: المراد مَن يضاد الذين ينصرون دين الله، كأنه قيل: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، ومَن لم ينصره فتعساً له، فوضع { الذين كفروا } موضع مَن لم ينصره؛ تغليظاً، فهو وِفقٌ لأسلوب السورة من التقابل المعنوي، فهو عطف جملة على جملة شرطية مثلها، ولذلك دخلت الفاء في خبر الموصول، كما قرره الزجاج. انظر الطيّبي. هـ. من الحاشية. { وأضَلَّ أعمالَهم } أي: أحبطها وأبطلها.
{ ذلك } التعس والإضلال { بأنهم كَرِهوا ما أنزلَ اللّهُ } من القرآن؛ لما فيه من التوحيد؛ وسائر الأحكام، المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمّارة بالسوء، { فأحْبَط } لأجل ذلك { أعمالَهم } التي كانوا عَمِلُوها، من صلة الأرحام وغيرها.
الإشارة: نهايةُ الجهاد الأصغر: وضعُ الحرب أوزارَها بالإسلام أو السّلم، ونهاية الجهاد الأكبر: استسلامُ النفس وانقيادها لما يُراد منها، أو موتها بالغيبة عنها بالكلية. قال بعض العارفين: انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا. هـ. فالإشارةُ بقوله: { إذا لقيتم الذين كفروا... } الخ إلى قتل الهوى والشطيان وسائر القواطع، حتى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا وثاقهم، ولا تأمنوا غائلتهم.
قال القشيري، بعد كلام: وكذلك العبد إذا ظفر بنفسه؛ فلا ينبغي أن يُبْقِيَ بعد انتقَاش شَوْكها بقيةً، ولا في قلع شجرها مستطاعاً وميسوراً؛ فالحيّة إن بقيت منها بقية من الحياة مَنْ وضع عليها إصبُعَه بَثَّتْ سُمَّها فيه. هـ. فإذا تمكنتم من معرفة الله، فإما أن تَمُنوا عليها بترك جِهادها الأكبر، وإما أن تفدوها بالغيبة عنها في حلاوة الشهود، حتى تضع الحرب أوزارها بالموت، ولو شاء اللّهُ لخلّصكم منها من غير جهاد، فالقدرة صالحة، ولكن ليختبركم، فيظهر السائرون من القاعدين مع حظوظهم "لولا ميادينُ النفوس ما تحقق سير السائرين". والذين قاتلوا نفوسَهم في سبيل الله وطلب معرفته، فلن يُضل أعمالَهم، سيهديهم إلى معرفته، ويُصلح بالهم بالاستغراق في شهوده، ويُدخلهم جنة المعارف، قد عرَّفها لهم، وبيَّنها على أيدي الوسائط من الشيوخ العارفين، أو طيّبها لهم، فيهتدون بنسيم واردات التوجه، إلى أنوار المواجهة. وقد أشار تعالى بقوله: { والذين قاتلوا في سبيل الله } إلى طلب الإخلاص، فلا يوصل الجهاد الأصغر ولا الأكبر إلى رضوان الله، أو معرفته، إلا بتحقُّق الإخلاص، من غير التفات لغرض نفساني، لا عاجلاً ولا آجلاً.
ذكر الشيخ أبو نعيم الحافظ: أن ميْسرة الخادم، قال: غزونا في بعض الغزوات، فإذا بفتى جانبي، وهو مقنَّع بالحديد، فحمل على الميمنة، ثم الميسرة، ثم على القلب، ثم أنشأ يقول:

أَحْسِنْ بمَولاكَ سَعيدُ ظنّاً هَذَا الذِي كُنتَ تَمَنَّى
تَنَح يا حُورَ الْجنَانِ عَنَّا مَا فيك قَاتَلْنَا ولا قُتِلْنا
لكِنْ إِلى سَيدكُنَّ اشْتَقْنَا قَدْ عَلِم السر وما أَعْلَنَّا

قال: فحمَل فقاتل، فقَتَل منهم عدداً، ثم رجع إلى موقفِه، فتكالب عليه العدو، فحملَ، وأنشأ يقول:

قد كُنْتُ أَرْجُو وَرَجَائي لَمْ يَخِبْ أَلاَّ يَضيعَ الْيَومَ كَدِّي والطَّلَبْ
يا مَن ملأ تِلْكَ الْقُصُورِ باللعب لَولاَكَ مَا طَابَتْ ولاَ طَابَ الطَّرَب
ْ

ثم حمَلَ فقاتل، فقَتل عدداً كثيرا، ثم رجع إلى مصافه، فتكالب عليه العدو، فحملَ ثالثة، وأنشأ يقول:

يَا لُعبةَ الْخُلْدِ قِفِي ثُمَّ اسْمَعِي ما لَكِ قَاتَلْنَا فَكُفّي وَارْجِعي
ثُمَّ ارْجِعِي إلى الْجِنَانِ وأَسْرعي لاَ تَطْمعِي لاَ تَطْمعِي لاَ تَطْمعِي

فقاتل رضي الله عنه حتى قُتل -رحمه الله . هـ.
قوله تعالى: { إِن تنصروا الله ينصركمْ ويُثبتْ أقدامكمْ } فيه ترغيب وتنشيط لأهل الوعظ والتذكير، الداعين إلى الله، الذين يسعون في أظهار الدين، وإرشاد عباد الله إلى محبة الله وطاعته. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
"والذي نفس محمد بيده، لئن شئتم لأقسمن لكم، أن أحب عباد الله إلى الله الذين يُحببون اللّهَ إلى عباده، ويُحببون عبادَ اللهَ إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة" . وقال أيضاً: "الخلق عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله" وأعظم النفع: إرشادهم إلى الله، الذي هو سبب سعادتهم السرمدية.
وقال الورتجبي: نُصرةُ العبد لله: أن يجاهد نفسه وهواه وشيطانه، فإنهم أعداؤه، فإذا خاصمها يُقويه الله وينصره عليهم، بأن يدفع شرهم عنه، ويجعله مستقيماً في طاعة الله، ويجازيه بكشف جماله، حتى يَثْبُتَ في مقام العبودية، وانكشاف أنوار الربوبية. هـ.
قال القشيري: ونصرةُ الله للعبد بإعلاء كلمته، وقمع أعدائه. ثم قال في قوله تعالى: { ويُثبت أقدامكم } هو إدامة التوفيق، لئلا ينهزم من صَوْلة أعداء الدين، ولا يَضعُف قلبُه في معاداتهم، ولا ينكسر باطنُه ثقةً بالله في إعزازِ دينه. هـ. ثم ذكر تعالى أضداد الداعين إلى الله، الناصرين لدينه، وهم المنتقدون عليهم، فقال: { والذين كفروا فتسعاً لهم } أي: خيبةً لهم، { وأضل أعمالهم } فلا يتوصلون بها إلى معرفته، لكونها معلولة.
ثم أمر بالتفكُّر والنظر؛ لأنه أقرب الطرق إلى التخلُّص من غوائل الأعداء، فقال: { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ }.