التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
٢٢
سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً
٢٣
وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
٢٤
هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
٢٥
-الفتح

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

{ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ... }
يقول الحق جلّ جلاله: { ولو قاتلكم الذين كفروا } من أهل مكة ولم يُصالحوا، أو من خلفاء خيبر، الذين جاؤوا لنصرهم { لَوَلَّوا الأدبارَ } منهزمين { ثم لا يجدون وليّاً } يلي أمرهم، { ولا نصيراً } ينصرهم. { سُنَّةَ الله التي قد خَلَتْ من قبل } مصدر مؤكد، أي: سنَّ الله غلبة أنبيائه سنة ماضية، وهو قوله:
{ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [المجادلة: 21] { ولن تجد لسنة الله تبديلاً } تغيُّراً.
{ وهو الذي كفَّ أيديَهم عنكم } أي: أيدي كفار أهل مكة { وأَيْدِيَكم عنهم } عن أهل مكة { ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } أي: أقدركم وسلَّطكم عليهم، يعني: قضى بينهم وبينكم المكافَّة والمحاجزة بعدما خوّلكم الظفر عليهم والغلبة، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية، يطلب غرة بالمسلمين، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بن الوليد على جند، فهزمهم، حتى أدخلهم حيطان مكة، ثم عاد ثانياً فهمزمه، ثم عاد فهزمه، هكذا نقله الثعلبي وغيره. فانظره مع ما في الاكتفاء للكلاعي: أن خالداً كان مع المشركين في الحديبية، وإنما أسلم بعد الحديبية قبل الفتح، وكان في السنة الثامة، والحديبية في السادسة، والذي ذكر النسفي أنه عليه السلام بعث مَن هزمهم، ولم يسمه، وهزمُ خالد لبعض قريش إنما كان في الفتح، لا في الحديبية، فلعل الراوي غلط. وقال أنس: إن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر، عام الحديبية، ليقاتلوا المسلمين، فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم سِلْماً، فأعتقهم، فنزلت الآية.
ووجه المنّة في كفّ أيدي المؤمنين عن الكافرين: ما ذكر بعد من قوله: { ولولا رجال مؤمنون }... الآية، أو: ما تطرق بسببه من الصلح وانقيادهم إليه، فإنهم لما رأوا أصحابهم انهزموا أذعنوا للصلح، وقال القشيري: بعد أن اضطرهم المسلمون إلى بيوتهم، أنزل الله هذه الآية يمنُّ عليهم، حيث كفّ أيديَ بعضهم عن بعض، عن قدرة من المسلمين، لا عن عجز، فأما الكفار فكفُّوا أيديهم رُعباً وخوفاً، وأما المسلمون فنهياً من قِبل الله، لما في أصلابهم من المؤمنين. هـ. { وكان الله بما تعملون } من مقاتلتهم وهزمهم أولاً، والكفّ عنهم ثانياً، لتعظيم بيته الحرام، وقرأ البصري بياء الغيب، أي: بما يعمل المشركون { بصيراً } فيجازي كُلاًّ بما يستحقه.
{ هم الذين كفروا وصدُّوكم عن المسجد الحرام } { و } صدُّوا { الهدْيَ } حال كونه { معكوفاً } أي: محبوساً عن { أن يبلغ مَحِلَّهُ } أي: مكانه الذي يحلّ به نحره، وهو منىً وكان صلى الله عليه وسلم ساق سبعين بدنة، فلما صُدّ، نَحَرَها بموضعه، وبه استدل مَن قال: إنّ المحصَر ينحر هداياه بموضعه، وروي أن خيامه صلى الله عليه وسلم كانت في الحل، ومصلاّه في الحرم، وهناك نحرت هداياه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يُقال لمَن سبقت لهم العناية، وحَفّت بهم الرعاية: لو قاتلكم الذين كفروا من النفس الأمّارة، والشيطان، والهوى، وسائر القواطع، لَوَلُّوا الأدبار، ثم لا يجدون تسلُّطاً عليكم أبداً، سُنَّة الله التي قد خلت فيمن توجه إليه بصدق الطلب، ودخل تحت تربية الرجال، فإن همتهم دائرة عليه، ولن تجد لسنَّة الله تبيدلاً. وهو الذي كفّ أيدي الأعداء من القواطع عنكم، وكَفّ أيديكم عنهم، من بعد أن أظفركم عليهم، فإنّ النفس إذا تعذّبت واطمأنت وجب الكفُّ عن مجاهدتها، ووجب البرور بها، وتصديقها فيما تحدثه، وكذا سائر القواطع تجب الغيبة عنها، وعدم الالتفات إليها غيبةً في الله واشتغالاً بشهوده. وقيل لبعضهم: متى ينتهي سير الطالبين؟ قال: "الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا". وأيضاً: لا تجتمع المجاهدة مع المشاهدة، فإذا تحققت المشاهدة فلا مجاهدة. هم الذين كفروا من النفوس المتمردة، والهوى، وصدُّوكم عن مسجد الحضرة، والهديَ معكوفاً، وحبسوكم عن التقرُّب إلى الله بالنفس والمال أن يبلغ محله، بأن تمنعكم من إعطائه، أو تُشِيبُه بما يُفسده من الرياء والعجب، لئلا تبلغ محل الإخلاص.
ثم ذكر حكمة منعهم من دخول مكة عام الحديبية، فقال:
{ ... وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }
قلت: { أن تطؤوهم }: بدل اشتمال من رجال ونساء، ومن ضمير "تعلموهم" وبغير متعلق بتطؤوهم، وجواب "لولا" محذوف، أغنى عنه جواب "لو" أي: لما كفّ أيديكم عنهم.
يقول الحق جلّ جلاله: { ولولا رجالٌ مؤمنون ونساء مؤمناتٌ } بمكة، ضَعُفوا عن الهجرة { لم تعلموهم } لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم مع المشركين، { أن تطأوهم بغير علمٍ } أي: غير عالِمين بهم { فتُصيبَكم منهم معرَّة } أي: مشقة ومكروه. وفي تفسير المحلي "المعرة" بالإثم نظر، مع فرض عدم العلم، إلا أن يُحمل على صورة الإثم، وهو الخطأ، وفيه الكفارة. والمعرة: مفعلة من: عراهُ: إذا دهاه ما يكرهه وشقّ عليه، وهو هنا الكفارة إذا قتله خطأ، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلو بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز، والإثم إذا قصد قتله. والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة. والحاصل أنه كان بمكة قوم مسلمون مختلطون بالمشركين، غير متميّزين منهم، فقيل: ولولا كراهة أن تُهلكوا ناساً من المؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم، فتُصيبكم بإهلاكهم مشقة ومكروه، ولما كففنا أيديكم عنهم، ولسلطانكم عليهم.
وكان ذلك الكفّ { ليُدخل اللّهُ في رحمته } أي: في توفيقه لزيادة الخير والطاعة لمؤمنيهم، أو: ليدخلهم في الإسلام مَن رغب فيه من مشركيهم { مَن يشاء } زيادته أو هدايته، فاللام متعلقة بمحذوف، تعليل لما دلت عليه الآية، وسيقت له، من كفّ الأيدي عن أهل مكة، والمنع من قتلهم، صوناً لما بين أظهرهم من المؤمنين. { لو تزيّلوا } أي: تفرّقوا وتميّز المسلمون من الكافرين، { لعذَّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً } بقتل مقاتلهتم، وسبي ذراريهم. ويجوز أن يكون: "لو تزيّلوا" كالتكرير لـ"لولا.."؛ لمرجعهما لمعنى واحد ويكون { لعذَّبنا... } الخ، هو جواب "لولا" والتقدير: ولولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمناتٍ من غير علم، ولو كانوا متميزين لعذبناهم بالسيف.
الإشارة: إذا اختلط أهل الانتقاد مع أهل الاعتقاد، لا يعم البلاء المعدّ لأهل الانتقاد، ولو تزيّلوا لعذبنا المنكرين عذاباً أليماً، وكذلك إذا اختلط الفجّار مع الأبرار، وغلب جمع الأبرار، لا يعم البلاء، ويُصرف عن الجميع، فلو تزيّل الفجّار لعُذبوا عذاباً أليماً.
قال القشيري: قد تكون في النفس أوصاف مستحسنة، تليق بالفيض الألهي، مع أوصاف مذمومة، فلو سلطناكم على إهلاكها بالمرة، لفاتكم ما فيها من الأوصاف الحسنة، فتُصيبكم معرة، ليدخل الله في رحمته بالوصول إلى حضرته من يشاء من النفوس، بتصفية ما فيها من الرذائل. لو تزيّلوا تميز ما يصلح قلعه، كالكبر، والشر، والحرص والحقد، أو ما يصلح تبديله، كالبخل بالسخاء، والحرص بالقناعة، والغضب بالحلم، والجبن بالشجاعة، والشهوة بالعفة، لعذَّبنا النفوس المتمردة عذاباً أليماً، بإهلاكها بالكلية. بالمعنى.
ثم وصف أهل الكفر المتقدمين الآن بالحَمية، فقال: { إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ }.