التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٦
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
١٧
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٨
-الحجرات

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { قل أتُعَلِّمون اللّهَ بدينِكم } أي: أتُخبرونه بذلك بقولكم آمنّا؟ رُوي أنه لمّا نزل قوله: { قل لم تؤمنوا } جاؤوا يحلفون إنهم لصادقون فأكذبهم الله بقوله: { قل أتُعلمون.. } الخ. والتعبير عنه بالتعليم لغاية تشنيعهم، كأنهم وصفوه تعالى بالجهل. قال الهروي: و"علَّمت" و "أعلمت" في اللغة بمعنى واحد، وفي القاموس: وعلّمه العلم تعليماً، وأعلمه إياه فتعلّمه. هـ. { واللّهُ يعلمُ ما في السماوات وما في الأرض } فلا يحتاج إلى إعلام أحد، وهو حال مؤكدة لتشنيعهم، { واللّهُ بكل شيءٍ عليمٌ } أي: مبالغ في العلم بجميع الأشياء، التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند أظهارهم الإيمان.
{ يمنُّون عليك أنْ أسْلَموا } أي: يعدون إسلامهم مِنّة عليك، فـ"أن" نصب على نزع الخافض، والمَنُّ: ذكر النعمة في وجه الافتخار. وقال النسفي: هو ذكر الأيادي تعريضاً للشكر، ونهينا عنه. هـ. فانظره. { قل لا تمنُّوا عليَّ إِسلامَكم } أي: لا تعدوا إسلامكم منةً عليَّ، فإنّ نفعَه قاصرٌ عليكم إن صح، { بل الله يَمُنُّ عليكم } أي: المنة إنما هي لله عليكم { أنْ هداكم للإِيمان } أي: لأن هداكم، أو: بأن هداكم للإيمان على زعمكم { إِن كنتم صادقين } في ادّعاء الإيمان، إلاَّ أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه. وجواب الشرط محذوف؛ لدلالة ما قبله عليه؛ أي: إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان فللّه المنّة عليكم.
وفي سياق النظم الكريم من اللُطف ما لا يخفى؛ فإنهم لمّا سَموا ما في صدورهم إيماناً، ومَنُّوا به، نفى تعالى كونه إيماناً، وسمّاه إسلاماً، كأنه قيل: يمنون عليك بما هو في الحقيقة إسلام وليس بإيمان، بل لو صحّ ادّعاؤهم للإيمان فللّه المنّة عليهم بالهداية إليه لا لهم.
{ إِنَّ اللّهَ يعلمُ غيبَ السماوات والأرض } أي: ما غاب فيهما، { والله بصير بما تعملون } في سِركم وعلانيتكم، وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم، يعني: الله تعالى يعلم كل مستتر في العالَم، ويُبصر كل عمل تعملونه في سِركم وعلانتيكم، لا يخفى عليه منه شيء، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم. قال الورتجبي: ليس لله غيب، إذ الغيب شيء مستور، وجميع الغيوب عِيان لله تعالى، وكيف يغيب عنه وهو موجده؟! يُبصرُ ببصره القديم ما كان وما لم يكن، وهناك العلم والبصر واحد. هـ. قوله:
"العلم والبصر واحداً" هذا على مذهب الصوفية في أن بصره يتعلق بالمعدوم، كما يتعلق به العلم، ومذهب علماء الكلام: أن متعلق البصر خاص بالموجودات، فمتعلق العلم أوسع. وانظر حاشية الفاسي على الصغرى.
الإشارة: كل مَن تمنى أن يعلم الناسُ ما عنده من العلم والسر؛ يُقال له: أتُعلِّمون الله بدينكم، والله يعلم ما في سموات القلوب والأرواح من السر واليقين، وما في أرض النفوس من عدم القناعة بعلم الله، والله بكل شيء عليم.
وفي الحكم: "استشرافك أن يعلم الناس بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك". وكل مَن غلب عليه الجهل حتى مَنَّ على شيخِه بصُحبته له، أو بما أعطاه، يقال في حقه: { يمنون عليك أن أسلموا... } الآية. وقوله تعالى: { والله بصير بما تعملون } قال القشيري: فمَن لاحَظَ شيئاً من أعماله وأحواله؛ فإن رآها من نفسه كان شِركاً، وإن رآها لنفسه كان مكراً، وإن رآها من ربه بربه كان توحيداً. وفقنا الله لذلك بمنِّه وجوده. هـ.
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً.