التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٦
-المائدة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { إذا قمتم }: أردتم القيام، كقوله: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقٌرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ } [ النّحل:98]، حذف الإرادة للإيجاز، وللتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وقوله: { برؤوسكم } الباء للإلصاق، تقول: أمسكتُ بثوب زيد، أي: ألصقت يدي به، أي: ألصقوا المسح برؤوسكم، أو للتبعيض، وهذا سبب الخلاف في مسحه كله أو بعضه، فقال مالك: واجب كله، وقال الشافعي: أقل ما يقع عليه اسم الرأس، ولو قلّ. وقال أبو حنيفة: الربع.
{ وأرجلكم }، مَن نَصَبَ عطف على الوجه، ومن خفض فعلى الجوار، وفائدته: التنبيه على قلة صبَّ الماء، حتى يكون غسلاً يقرب من المسح. قاله البيضاوي: ورده في المُغني فقال: الجوار يكون في النعت قليلاً، وفي التوكيد نادرًا، ولا يكون في النسق؛ لأن العاطف يمنع من التجاور، وقال الزمخشري: لمّا كانت الأرجل بين الأعضاء الثلاثة مغسولات، تغسل بصب الماء عليها، كان مظنة الإسراف المذموم شرعًا، فعطف على الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها، وجيء فيهما بالغاية إماطة لظن من يظن أنها ممسوحة؛ لأن المسح لم يضرب له غاية في الشريعة. هـ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { يا أيها الذين آمنوا } إذا أردتم القيام { إلى الصلاة } وأنتم محدثون { فاغسلوا وجوهكم } من منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن، ومن الأذن إلى الأذن، { وأيديكم إلى المرافق } أي: معها، { وامسحوا برؤوسكم } أي: جميعها أو بعضها على خلاف، { وأرجلكم إلى الكعبين } العظمين الناتئين في مفصلي الساقين، فهذه أربعة فرائض، وبقيت النية لقوله:
{ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ } [البَيّنَة:5]، ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: " "إنما الأعمال بالنيات " . والدلك؛ إذًا لا يسمى غسلاً إلا به، وإلا كان غمسًا، والفور؛ لأن العبادة إذا لم تتصل كانت عبثًا. ولمّا عطفت بالواو، وهي لا ترتب، علمنا أن الترتيب سنة.
{ وإن كنتم مرضى } لم تقدروا على الماء { أو على سفر } ولم تجدوه، أو في الحضر؛ و { جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } بالجماع أو غيره { ولم تجدوا ماء فتيموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم } أي: جميعه { وأيديكم منه }، وقيد الحضر بفقد الماء دون السفر؛ لأن السفر مظنة إعوازه، فالآية نص في تيمم الحاضر الصحيح للصلوات كلها. قال البيضاوي: وإنما كرره، ـ يعني مع ما في النساء ـ ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة. هـ.
ثم قال تعالى: { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } حتى يكلفكم بالطهارة في المرض أو الفقد من غير انتقال للتيمم، { ولكن يريد ليطهركم } أي: ينظفكم بالماء أو بدله، أو يطهركم من الذنوب، فإن الذنوب تذهب مع صب الماء في كل عضو، كما في الحديث، { وليتم نعمته عليكم } بشرعه، ما هو مَطهَرَةٌ لأبدانكم، ومَكفَرَة لذنوبكم { ولعلكم تشكرون } نعمه فيزيدكم من فضله.
الإشارة: كما أمر الحقّ جلّ جلاله بتطهير الظاهر لدخول حضرة الصلاة، التي هي محل المناجاة ومعدن المصافاة، أمر أيضًا بتطهير الباطن من لوث السهو والغفلات، فمن طهر ظاهره من الأوساخ والنجاسات، ولوّث باطنه بالوساوس والغفلات، كان بعيدًا من حضرة الصلاة؛ إذ لا عبرة بحركة الأبدان، وإنما المطلوب حضور الجنان.
قال القشيري: وكما أن للظاهر طهارةً فللسرائر طهارة، فطهارة الظاهر بماء السماء، أي: المطر، وطهارة القلوب بماء الندم والخجل، ثم بماء الحياء والوجل، ويجب غسلُ الوجه عند القيام إلى الصلاة، ويجب ـ في بيان الإشارة ـ صيانة الوجه عن التبذل للأشكال عند طلب خسائس الأغراض، وكما يجب مسحُ الرأس، يجب صونه عن التواضع لكل أحد ـ أي: في طلب الحظوظ والأغراض ـ وكما يجب غسل الرجلين في الطهارة الظاهرة، يجب صونها ـ في الطهارة الباطنة ـ عن التنقل فيما لا يجوز. هـ.
وقال عند قوله: { وإن كنتم جُنبًا فاطهروا }: وكما يجب طهارة الأعلى، أي: الظاهر، فيقتضي غسل جميع البدن، فقد يقع للمريد فترة ـ توجب عليه الاستقصاء في الطهارة الباطنية ـ فذلك تجديد عقد وتأكيد عهد، وكما أنه إذا لم يجد المتطهرُ الماءَ فَفَرضُه التيممُ، فكذلك إذا لم يجد المريد مَن يفيض عليه صَوبَ همته، ويغسله ببركات إشارته، اشتغل بما يُنشر له من اقتفاء آثارهم، والاسترواح إلى ما يجد من سالف سِيرتهم، ومأثور حكايتهم. هـ.
قلت: محصل كلامه أن من سقط على شيخ التربية، كان كمن وجد الماء فاستعمل الطهارة الأصلية الحقيقية، ومن لم يسقط على شيخ التربية، كان كالمستعمل للطهارة الفرعية المجازية؛ وهي التيمم، وإلى ذلك أشار الغزالي، لما سقط على الشيخ، ولامه ابن العربي الفقيه على التجريد، فقال:

قّد تَيَمَّمت بالصَّعِيدِ زَمَانًا والآن قّد ظَفِرتَ بالمَاء
مَن سَرَى مطبقَ الجُفُونِ وأضحى فَاتِحًا لا يردُّها للعَمَاء

ثم قال: لمَّا طَلَعَ قمرُ السَّعَادةِ في ملك الإرَادَة وأشرقت شمسُ الوُصوُلِ على أُفقِ الأُصُول:

تَرَكتُ هَوَى لَيلَى وسُعدَى بمعزلٍ ومِلتُ إلى عَليَاءِ أول مَنزلِ
فنادَتني الأوطانُ أهلاً ومرحَبًا إلا أيها السَّارِي رُوَيدَكَ فانزِلِ
غَزَلْتُ لهم غَزلاً رقِيقًا فلم أجِد لِغزلِي نَسَّاجًا فَكسَّرتُ مِغزَلِي

ثم ذكَّرهم الحقّ جلّ جلاله العهدّ الذي أخذه عليهم في الجهاد والطاعة، حين بايعوا نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في العقبة وغيرها، فقال: { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ }.