التفاسير

< >
عرض

وَتَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٦٢
لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
٦٣
وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ
٦٤
-المائدة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { لولا }: إذا دخلت على الماضي أفادت التوبيخ، وإذا دخلت على المستقبل أفادت التحضيض.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { وترى } يا محمد، أو يا من تصح منه الرؤية { كثيرًا } من اليهود { يسارعون في الإثم } أي: في الذنوب والمعاصي المتعلقة بهم في أنفسهم { والعدوان } المتعلقة بغيرهم، كالتعدي على أموال الغير وأعراضهم وأبدانهم، { وأكلهم السحت }: الحرام؛ كالرشا والربا وغير ذلك، { لبئس ما كانوا يعملون } أي: قبح عملهم بذلك، وتناهى في القبح.
{ لولا ينهاهم } أي: هلا ينهاهم { الربانيون } أي: عُبّادُهم ورهبانهم، { والأحبار } أي: علماؤهم وأساقفتهم، { عن قولهم الإثم } أي: الكذب، { وأكلهم السحت }: الحرام، { لبئس ما كانوا يصنعون } من السكوت عنهم، وعدم الإنكار عليهم، عبّر أولاً بيعلمون وثانيًا بيصنعون؛ لأن الصنع أبلغ، ولأن الصنع عمل بعد تدريب وتدقيق وتحري إجادته وجودته، بخلاف العمل، ولا شك أن ترك التغيير والسكوت على المعاصي من العلماء وأولى الأمر أقبح وأشنع من مواقعة المعاصي، فكان جديرًا بأبلغ الذم، وأيضًا: ترك التغيير لا يخلوا من تصنع، فناسب التعبير بيصنعون، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
" مَا مِن رَجُل يُجَاورُ قَومًا فَيَعمَلُ بالمَعَاصِي بَين أظْهُرِهم إلاَّ أوشَكَ اللهُ تَعَالَى أن يَعُمَّهُمُ مِنه بِعِقَاب" ". وقد قال تعالى: { { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } [الأنفَال:25]، فالوبال الذي يترتب على ترك الحسبة أعظم من الوبال الذي يترتب على المعصية، فكان التوبيخ على ترك الحسبة أعظم.
ثم نعى عليهم مقالاتهم الشنيعة، التي هي من جملة قولهم الإثم، فقال: { وقالت اليهود يد الله مغلولة } أي: مقبوضة عن بسط الرزق. رُوِي أن اليهود أصابتهم سنة جدبة بشؤم تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه المقالة الشنيعة، والذي قالها فِنحاص، ونسبت إلى جملتهم؛ لأنهم رضوا بقوله، فعل اليد كناية عن البخل، وبسطها كناية عن الجود، ومنه:
{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } [الإسرَاء:29].
ثم رد عليهم فقال: { غُلّت أيديهم }، يحتمل أن يكون دعاءً أو خبرًا، ويحتمل أن يكون في الدنيا بالأسر والقبض، أو في الآخرة بجعل الأغلال فيها إلى عنقهم في جهنم، قال تعالى: { بل يداه مبسوطتان }، أي: نعمه مبسوطة على عباده، سحاء عليهم، الليل والنهار، وإنما ثنيت اليدان عنها، وأفردت في قول اليهود؛ ليكون أبلغ في الرد عليهم، ومبالغة في وصفه تعالى بالجود والكرم، كما تقول: فلان يعطي بكلتا يديه؛ إذا كان عظيم السخاء، أو كناية عن نعم الدنيا والآخرة، أو عن ما يعطيه استدارجًا وما يعطيه للإكرام. ثم أكده بقوله: { يُنفق كيف يشاء } أي: هو مختار في إنفاقه، يوسع تارة ويضيق تارة أخرى، على حسب مشيئته ومقتضى حكمته.
ولمّا عميت بصيرتهم بالكفر، وقست قلوبهم بالذنوب، كانوا كلما ازدادوا تذكيرًا بالقرآن، زادوا في العتو والطغيان، كما قال تعالى: { وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا }؛ إذ هم متعصبون بالكفر والطغيان، ويزدادون طغيانًا وكفرًا بما يسمعون من القرآن، كما يزداد المريض مرضًا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء.
ومن مساوئهم أيضًا: تفريق قلوبهم بالعداوة والشحناء، كما قال تعالى: { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة }؛ فلا تتوافق قلوبهم ولا تجتمع آراؤهم؛ { كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله } أي: كلما أرادوا حرب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وإثارة شر عليه، ردهم الله، وأبطل كيدهم، بأن أوقع بينهم منازعة كف بها شرهم، أو: كلما أرادوا حرب عدو لهم هزمهم الله، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمون. فكان شأنهم الفساد، ولذلك قال تعالى فيهم: { ويسعون في الأرض فسادًا } أي: الفساد بإثارة الحروب والفتن، وهتك المحارم، واجتهادهم في الحيل والخدع للمسلمين، { والله لا يحب المفسدين } أي: لا يرضى فعلهم فلا يجازيهم إلا شرًّا وعقوبة.
الإشارة: قال الورتجبي: في الآية تحذير الربانيين العارفين بالله وبحقوق الله، والأحبار العلماء بالله وبعذاب الله لمن عصاه، وبثواب الله لمن أطاعه؛ لئلا يسكنوا عن الزجر للمبطلين والمغالطين، المائلين عن طريق الحق إلى طريق النفس، وبيّن تعالى أن من داهن في دينه عذب وإن كان ربانيًا. هـ. وفي بعض الأثر: "إذا رأى العالمُ المنكَر وسكت، فعليه لعنة الله". والذي يظهر أن نهي الربانيين يكون بالهمة والحال، كقضية معروف الكرخي وغيره ونهي الأحبار يكون بالمقال، وقد تقدم هذا. والله تعالى أعلم.
ثم ندبهم إلى الإسلام فقال: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ آمَنُواْ }.