التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
١٥
آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ
١٦
كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
١٧
وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
١٨
وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ
١٩
-الذاريات

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { إِنَّ المتقين في جناتٍ وعيون } عظيمة، لا يبلغ كُنهها، ولا يُقادر قدرها، ولعل المراد بها الأنهار الجارية، بحيث يرونها، ويقع عليها أبصارهم، لا أنهم فيها، { آخذين ما آتاهم ربهم } أي: نائلين ما أعطاهم راضين به، بمعنى أنَّ كلَّ ما يأتهم حسَنٌ مرضي، يتلقى بحسن القبول، { إِنهم كانوا قبل ذلك } في الدنيا { محسنين } متقنين لأعمالهم الصالحة، آتين بها على ما ينبغي، فلذلك نالوا ما نالوا من الفوز العظيم، ومعنى الإحسان ما فسره به عليه الصلاة والسلام: "أن تعبد الله كأنك تراه" الحديث. ومن جملته ما أشار إليه بقوله:
{ كانوا قليلاً من الليل ما يَهْجعون } أي: كانوا يهجعون، أي: ينامون في طائفة قليلة من الليل، على أن "قليلاً" ظرف؛ أو كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً، على أنه صفة لمصدر، و"ما" مزيدة في الوجهين، ويجوز أن تكون مصدرية مرتفعة بـ"قليلاً" على الفاعل، أي: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم. وقال النسفي: يرتفع هجوعهم على البدل من الواو في "كانوا": لا بقليلاً؛ لأنه صار موصوفاً بقوله: { من الليل } فبعد من شبه الفعل وعمله، ولا يجوز أن تكون "ما" نافية على معنى: أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ويُحْيُونه كله. هـ. أو كانوا ناساً قليلاً ما يهجعون من الله؛ لأن "ما" النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، ولأن المحسنسن وهم السابقون كانوا كثيراً في الصدر الأول، وموجودون في كل زمان ومكان، فلا معنى لقلتهم، خلافاً لوقف الهبطي، وأيضاً: فمدحهم بإيحاء الليل كله مخالف لحالته صلى الله عليه وسلم، وما كان يأمر به.
{ وبالأسحارِ هم يستغفرون } وصفهم بأنهم يحيون جُل الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار من رؤية أعمالهم. والسَحر: السدس الأخير من الليل، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يُوصفوا بالاستغفار، كأنهم المختصون به، لاستدامتهم له، وإطنابهم فيه.
{ وفي أموالهم حقُّ } أي: نصيب وافر، يُوجبونه على أنفسهم، تقرُّباً إلى الله تعالى وإشفاقاً على الناس، { للسائلِ والمحروم } أي: لمَن يُصرح بالسؤال لحاجة، وللمتعفف الذي يتعرّض ولا يسأل حياءً وتعففاً، يحسبه الناس غنيّاً فيحرم نفسه من الصدقة. وقد تكلم في نوادر الأصول على مَن سأل بالله، أي: قال: أعطني لوجه الله، هل يجب إعطاؤه أم لا؟ وفي الحديث:
"مَن سألكم بالله فأعطوه" . قال: وهو مُقيد بما إذا سأل بحق: أي: لحاجة، وأما إذا سأل بباطل - أي: لغير حاجة - فإنما سأل بالشيطان؛ لأن وجه الله حق. ثم ذكركلام عليّ شاهداً، ثم حديث معاذ: "مَن سألكم بألله فأعطوه، فإن شئتم فدعوه" ، قال معاذ: وذلك أن تعرف أنه غير مستحق، وإذا عرفتم أنه مستحق، وسأل فلم تعطوه فأنتم ظَلَمة. وأُلحِقَ بغير المستحق مَن اشتبه حاله؛ لتعليق الظلم على معرفة الاستحقاق خاصة.
وقال النووي في الأذكار: يُكره منع مَن سأل بالله، وتشفَّع به؛ لحديث:
"مَن سأل بالله فأعطوه" قال: ويكره أن يسأل بوجه الله عير الجنة. هـ. وفي حديث المنذري: "ملعونٌ مَن سأل بوجه الله، وملعونٌ مَن سُئل بوجه الله، ثم مَنَعَ سَائِلَهُ ما لم يَسْأَلْ هُجْراً" . وقال في كتابه "الأخبار" على قوله عليه الصلاة والسلام: "مَن سألكم بالله فأعطوه" إجلالاً لله تعالى، وتعظيماً، وإيجاباً لحقه. ثم قال: إذ ليس يجب إعطاء السائل إذا كان في معصية أو فضول، فمَن سأل بالله فيما ليس عليه ولا عليك فرضه، فإعطاؤك إياه لإجلال حق الله وتعظيمه، وليس عليك بفرض ولا حتم. انظر تمامه في الحاشية الفاسية.
الإشارة: إنَّ المتقين ما سوى الله في جنات المعارف، وعيون العلوم والأسرار. قال القشيري: في عاجلهم في جنة الوصول، وفي آجلهم في جنة الفضل، فغداً نجاة ودرجات، واليوم قربات ومناجاة. هـ. { آخذين ما آتاهم ربهم } من فنون المواهب والأسرار، وغداً من فنون التقريب والإبرار، راضين بالقسمة، قليلاً أو كثيرة. إنهم كانوا قبل ذلك: قبل الإعطاء، محسنين، يعبدون الله على الإخلاص، يأخذون من الله، ويدفعون به، وله، ولا يردون ما أعطاهم، ولو كان أمثال الجبال، ولا يسألون ما لم يعطهم، اكتفاء بعلم ربهم.
قال القشيري: كانوا قبل وجودهم محسنين، وإحسانهم: كانوا يُحبون الله بالله، يحبهم ويحبونه وهم في العدم، ولمَّا حصلوا في الوجود، كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، كأنَّ نومهم عبادة، لقوله عليه الصلاة والسلام:
"نوم العالم عبادة" . فمن َيكون في العبادة لا يكون نائماً، وهجوع القلب: غفلته، وقلوبهم في الحضرة، ناموا أو استيقظوا، فغفلتهم بالنسبة إلى حضورهم قليلة. وقال سهل رضي الله عنه: أي: كانوا لا يغفلون عن الذكر في حال، يعني هجروا النوم؛ لوجود الأُنس في الذكر، والمراد بالنوم: نوم القلب بالغفلة.
{ وبالأسحار هم يستغفرون }، قال القشيري: أخبر عن تهجدهم، وقلة دعاويهم، وتنزُّلهم بالأسحار، منزلةَ العاصين، تصغيراً لقدرهم، واحتقاراً لفعلهم. ثم قال: والسهر لهم في لياليهم دائم، إما لفرط لهف، أو شدة أسف، وإما لاشتياق، أو للفراق، كما قالوا:

كم ليلةٍ فيك لا صباحَ لها أفنيْتُها قابضاً على كبدي
قد غُصَّت العين بالدموع وقد وضعتُ خدي على بنانِ يدي

وإما لكمال أُنس، وطيب روح، كما قالوا:

سقى الله عيشاً قصيراً مضى زمانَ الهوى في الصبا والمجون
لياليه تحكي انسدادَ لحاظٍ لعيْنيّ عند ارتداد الجفون

هـ.
{ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } أي: هم يُواسون مَنْ قصدهم بالحس والمعنى، فيبذلون ما خوّلهم الله من الأموال، للسائل والمتعفف، وما خوّلهم الله من العلوم، للطالب والمعرض، وهو المحروم، فيقصدونه بالدواء بما أمكن؛ فإنهم أطباء، والطبيب يقصد المريض أينما وجده، شفقةً ورحمة، ونُصحاً للعباد. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دلائل قدرته على ما أقسم عليه من البعث، فقال: { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ }.