التفاسير

< >
عرض

وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ
٥٦
مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ
٥٧
إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ
٥٨
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ
٥٩
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ
٦٠
-الذاريات

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { وما خلقتُ الجنَّ والإِنس إِلا ليعبدون } أي: إلا لنأمرهم بالعبادة والخضوع لربوبيتي، لا لنستعين بهم على شأن من شؤوني، كما هي عادة السادات في كسب العبيد، ليستعينوا بهم على أمر الرزق والمعاش، ويدلّ على هذا التأويل: قوله تعالى { وما أريد منهم من رزق... } الخ، قال ابن المنير، إلا لأمرهم بعبادته، لا لطلب رزقٍ لأنفسهم، ولا إطعام لي، كما هو حال السادات من الخلق مع عبيدهم، بل الله هو الذي يرزق، وإنما على عباده العبادة له؛ لأنهم مُكلَّفون، ابتلاءً وامتحاناً، أما الإرادة فكما تعلقت بالعبادة تعلقت بما يخالفها، لقوله: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ } [الأعراف: 179]. هـ. وقيل المعنى: ما خلقهم إلا مستعدين للعبادة، متمكنين منها أتم استعداد، وأكمل تمكُّن، فمنهم مَن أطاع، ومنهم مَن كفر، وهو كقولهم: البقرة مخلوقة للحرث، أي: قابلة لذلك، وقد يكون فيها مَن لا يحرث. والحاصل: أنه لا يلزم من كون الشيء مُعدّاً لشيءٍ أن يقع منه جميع ذلك.
أو: ما خلقتهم إلا ليتذللوا لي، ولقدرتي، وإن لم يكن ذلك على قواعد شرع، وهذا عام في الكل، طوعاً أو كرهاً؛ إذ كل ما خلق مُنقاد لقدرته وقهريته، عابد له بهذا المعنى. وفي البخاري: وما خلقت أهل السعادة من الفريقين إلا ليُوحِّدون. وقال بعضهم: خلقهم ليفْعلوا، ففعل بعضٌ وترك بعضٌ. وليس فيه حجة لأهل القدر. هـ. منه، والمراد بأهل القدر: المعتزلة، القائلون بأن الله تعالى لم يُرد الكفر والمعاصي، وهو باطل، وسيأتي في الإشارة بقية تحقيق إن شاء الله.
{ ما أُريد منهم من رزقٍ } أي: ما خلقتهم ليَرزقوا أنفسهم، أو واحداً من عبادي، { وما أُريد أن يُطعمون } قال ثعلب: أن يُطعموا عبادي، وهو إضافة تخصيص، كقوله عليه السلام:
"مَن أكرم مؤمناً فقد أكرمني ومَن آذى مؤمناً فقد آذاني" ، والحاصل: أنه تعالى بيَّن أن شأنه مع عباده متعالياً عن أن يكون كشأن السادات مع عبيدهم، حيث يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم، وتهيئة أرزاقهم، أي: ما أريد أن أصرفهم في تحصيل رزقي ولا رزقهم، بل أتفضّل عليهم برزقهم، وبما يصلحهم ويعيشهم من عندي، فليشتغلوا بما خُلقوا له من عبادتي.
{ إِنَّ الله هو الرزَّاق } أي: يرزق كل مَن يفتقر إلى الرزق، وفيه تلويح بأنه غني عنه، { ذو القوة } ذو الاقتدار، { المتينُ } أي: الشديد الصلب. وقرأ الأعمش "المتِين" بالجر، نعت للقوة، أي: ذو القوة المتينة، وإنما ذكّره لتأول القوة بالاقتدار.
{ فإِنَّ للذين ظلموا } أنفسهم، بتعريضها للعذاب، حيث كذّبوا الرسولَ صلى الله عليه وسلم، أو: وضعوا التكذيب مكان التصديق، وهم أهل مكة، { ذنوباً } أي: نصيباً وافراً من العذاب، { مثل ذنوب أصحابهم } مثل عذاب نظائرهم من الأمم المحكية. قال الزجاج: الذَنوب في اللغة، النصيب، مأخوذ من مقاسمة السُقاة الماءَ بالذنوب، وهو الدلو العظيم المملوء. { فلا يستعجلون } ذلك النصيب، فإنه لاحق بهم، وهذا جواب النضر وأصحابه حين استعجلوا العذاب.
{ فويلٌ للذين كفروا } وضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالكفر، أي: فويلٌ لهم { من يومهِمُ الذي يُوعَدون } أي: من يوم القيامة، أو يوم بدر، والأول أنسب لما في صدر السورة الآتية.
الإشارة: اعلم أن الحق - جلّ جلاله - إنما بعث الرسلَ بإظهار الشرائع، ليحوّشوا العباد إلى الله، ويدعوهم إليه كافة، ويأمروهم بالتبتُّل والانقطاع، من غير التفات لمَن سبق له السعادة والشقاء؛ لأن ذلك من سر القدر، وغيب المشيئة لا يجوز كشفه في حالة الدعوة، فقوله تعالى: { وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون } هذا ما يمكن الأمر به في ظاهر الأمر، ويُؤمر بإظهاره في حالة الدعوة، وكون الحق الحق تبارك وتعالى أراد من قوم الكفر والمعاصي من غيب المشيئة، وسر القدر لا يقدح في عموم الدعوة التي تعلقت بالظواهر؛ لأنه من قبيل الحقيقة، وما جاءت الرسل إلا بالشريعة، فالدعاة إلى الله يُعممون الدعوة، ويُحرِّضون على التبتُّل والأنقطاع إلى الله، وينظرون إلى ما يبرز من غيب المشيئة. وقال الورتجبي: عن جعفر الصادق { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي: ليعرفوني. هـ. ومداره قوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن رب العزة:
"كنت كنزاً مخفياً لم أُعرف، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقت الخلق لأُعرف" أي: ما أظهرت الخلق إلا لأُعرف بهم، فتجليت بهم في قوالب العبودية، لتظهر ربوبيتي في قوالب العبودية، فتظهر قدرتي وحكمتي، فسبحان الحكيم العليم.
قال أبو السعود: ولعل السر في التعبير عن المعرفة بالعبادة للتبيه على أن المعتَبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى، لا ما يحصل بغيرها، كمعرفة الفلاسفة. هـ. قلت: وكل معرفة وحقيقة لا تصحبها شريعة لا عبرة بها، بل هي زندقة أو دعوى. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى: { إِن الله هو الرزّاقُ ذو القوة المتين } هذه الآية وأمثالها هي التي غسلت الأمراض والشكوك من قلوب الصدِّيقين، حتى حصل لهم اليقين الكبير، فسكنت نفوسُهم، واطمأنت قلوبهم، فهم في روح وريحان. والأحاديث في ضمان الرزق كثيرة، وأقوال السلف كذلك، وفي حديث أبي سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وسلم قال:
"لو فَرَّ أحدُكم من رِزْقه لتبعه كما يَتْبعه الموتُ" وقال أيضاً عن الله عزّ وجل:"يقول: "يا ابن آدم تفرَّغْ لعبادتي، املأ صدرك غِنىً، وأسُد فقرك، وإلا تفعل ملأت يدك شُغلاً" ، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن كانت الآخرة هَمَّه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شَمْلَه، وأتته الدنيا وهي صاغرة، ومَن كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقرّه بين عينيه، وفرَّق عليه شملَه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له" .
وقال المحاسبي: قلت لشيخنا: من أين وقع الاضطراب في القلوب، وقد جاء الضمان من الله عزّ وجل؟ قال: من وجهين: من قلة المعرفة وقلة حسن الظن. ثم قال: قلت: شيء غيره؟ قال: نعم، إن الله عزّ وجل وَعَدَ الأرزاق وضمِنها، وغيّب الأوقات، ليختبر أهل العقول، ولولا ذلك لكان كل المؤمنين راضين، صابرين، متوكلين، لكن الله - عزّ وجل - أعلمهم أنه رازقهم، وحلف لهم، وغيّب عنهم أوقات العطاء، فمِن هنا عُرف الخاص من العام، وتفاوت العباد، فمنهم ساكن، ومنهم متحرك، ومنهم ساخط، ومنهم جازع، فعلى قدر ما تفاوتوا في المعرفة تفاوتوا في اليقين. هـ. مختصراً. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.