التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ
٧
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ
٨
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ
٩
قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ
١٠
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ
١١
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ
١٢
يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ
١٣
ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
١٤
-الذاريات

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { والسماءِ ذات الحُبُكِ } ذات الطُرق الحسيّة، مثل ما يظهر على الماء والرمال من هبوب الرياح، وكذلك الطُرق التي في الأكسية من الحرير وغيره، يقال لها: حُبُك جمع حَبيكةٌ، كطريقة وطُرق، أو: جمع حِباك، قال الرَّاجز:

كأنما جلاَّها الحوَّاكُ طِنْفَسَةً في وَشْيِها حِبَاكُ

والحوَّاك: صانع الحياكة، والمراد: إما الطريق المحسوسة، التي هي مسير الكواكب، أو: المعنوية، التي يسلكها النُظار في النجوم، فإن لها طرائق. قال البيضاوي: النكتة في هذا القَسَم، تشبيه أقوالهم في اختلافها، وتباين أغراضها، بطرائق السماوات في تباعدها، واختلاف غاياتها، وقال ابن عباس وغيره: ذات الخَلْق المستوي، وعن الحسن: حبكها نجومها. وقال ابن زيد: ذات أشدة، لقوله تعالى: { سَبْعاً شِدَاداً } } [النبأ: 12].
{ إِنكم } يا أهل مكة { لفي قولٍ مختلف } متخالف متناقض، وهو قولهم في حقه صلى الله عليه وسلم تارة: شاعر، وأخرى ساحر، وفي شأن القرآن، تارة: شعر، وأخرى أساطير الأولين { يُؤفكُ عنه مَن أُفك } يُصرف عن القرآن، أو عن الرسول، مَن ثبت له الصرف الحقيقي، الذي لا صرف أفظع وأشد منه، فكأنّ لا صرف حقيقة إلا لهذا الصرف، أي: يُصرف عن الإيمان مَن صُرف عن كل سعادةٍ وخير، أو: يُصرف عن الإيمان مَن صُرف في سابق الأزل.
قلت: والأظهر أن يرجع لما قبله، أي: يُصرف عن هذا القول المختلف مَن صُرف في علم الله تعالى، وسَبقت له العناية، يقول: أفكه عن كذا: صرفه عنه، وإن كان الغالب استعماله في الصرف عن الخير إلى الشر، لكنه عُرفي، لا لغوي. والله تعالى أعلم.
{ قُتل الخرَّاصُون } دعاء عليهم، كقوله:
{ قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } [عبس: 17] وأصله: الدعاء القتل والهلاك، ثم جرى مجرى "لُعِنَ"، والخرَّاصون: الكذّابون المُقدِّرون ما لا صحة له، وهم أصحاب القول المختلف، كأنه قيل: لُعن هؤلاء الخراصون { الذي هم في غمرةٍ } في جهل يغمرهم، { ساهون } غافلون عما أُمروا به { يسألون أيّان يومُ الدين } أي: متى وقوع يوم الجزاء، لكن لا بطريق الاستعلام حقيقة، بل بطريق الاستعجال، استهزاء، فإنَّ "إيّان" ظرف للوقوع المقدّر؛ لأن "أيّان" إنما يقع ظرفاً للحدثان.
ثم أجابهم بقوله: { يومَ هم على النار يُفتنون } أي: يقع يوم هم على النار يُحرقون ويُعذّبون، ويجوز أن يكون خبراً عن مضمر، أي: هو يوم هم، وبُني لإضافته إلى مضمر، ويُؤيده أنه قُرئ بالرفع. { ذُوقوا فِتْنتكم } أي: وتقول لهم خزنة النار: ذوقوا عذابكم وإحراقكم بالنار، { هذا الذي كنتم به تستعجلون } أي: هذا العذاب هو الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا، بقولكم:
{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } [الأعراف: 70] فـ"هذا": مبتدأ، و"الذي..." الخ: خبر، ويجوز أن يكون "هذا" بدلاً من فتنتكم، و"الذي": صفته.
الإشارة: أقسم الله تعالى بسماء الحقائق، وتُسمى سماء الأرواح؛ لأن أهل الحقائق روحانيون سماويون، ترقَّوا من أرض الأشباح إلى سماء الأرواح، حيث غلبت روحانيتهم، على بشريتهم، كما أن أهل الشرائع اليابسة أرضيين بشريين، حيث غلبت بشريتهم الطينية على روحانيتهم السماوية، ولكل واحدٍ طُرق، فطُرق سماء الحقائق هي المسالك التي تُوصل إليها، وهي قَطْع المقامات والمنازل، وخَرق الحُجب النفسانية، حتى يُفضوا إلى مقام العيان "في مقعد صدق عند مليك مقتدر" وطُرق أرض الشرائع هي المذاهب التي سلكها الأولون، واقتدى بهم الآخرون، يفضوا أهلها إلى رضا الله ونعيمه. وكان الشيخ الشاذلي رضي الله عنه يقول في تلميذه المرسي: إن أبا العباس أعرف بطُرق السماء منه بطُرق الأرض، أي: أعرف بمسالك الحقائق منه بمذاهب الشرائع، وهذا إشارة قوله: { ذات الحُبك } أي: الطُرق. إن أهل الجهل بالله لفي قولٍ مُختلفٍ مضطرب، لا تجد قلوبهم تأتلف على شيء، قلوبهم متشعبة، ونياتهم مختلفة، وهممهم دنية، وأقوالهم مضطربة، بخلاف أهل الحقائق العارفين بالله، قلوبهم مجتمعة على محبة واحدة، وقصدٍ واحد، وهو الله، بدايتهم في السلوك مختلفة، ونهايتهم متفقة، وهو الوصول إلى حضرة العيان، ولله در ابن البنا، حيث قال:

مذاهبُ الناسِ على اختلاف ومذهبُ القوم على ائتلاف

وقال الشاعر:

عباراتهم شتى وحُسْنُك واحدٌ وكُلٌّ إلى ذاك الجمال يُشير

يُؤفك عن هذا الاختلاف مَن صُرف في سابق العناية، أو مَن صُرف من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح. قُتل الخراصُون؛ المعتمدون على ظنهم وحدسهم، فعلومهم جُلها مظنونة، وإيمانهم غيبي، وتوحيدهم دليلي من وراء الحجاب، لا يَسلم من طوارق الاضطراب، الذين هم في غمرة؛ أي: في غفلة وجهل وضلالة - ساهون عما أُمروا به من جهاد النفوس، والسيرإلى حضرة القدوس، أو ساهون غائبون عن مراتب الرجال، لا يعرفون أين ساروا، وفي أيّ بحار سَبَحوا وغاصوا، كما قال شاعرهم:

تركنا البحورَ الزاخراتِ وراءنا فمن أين يدري الناسُ أين توجهنا؟

{ يسألون أيّان يومُ الدين } ؛ لطول أملهم، أو يسألون أيَّان يوم الجزاء على المجاهدة. قال تعالى: هو { يوم هم } أي: أهل الغفلة - على نار القطيعة أو الشهوة يُفتنون بالدنيا وأهوالها، والعارفون منزَّهون في جنات المعارف. ويقال للغافلين: ذُوقوا وبال فتنتكم، وهو الحجاب وسوء الحساب، هذا الذي كنتم به تستعجلون، بإنكاركم على أهل الدعوة الربانيين، فتستعجلون الفتح من غير مفتاح، تطلبون مقام المشاهدة من غير مجاهدة، وهو محال في عالم الحكمة. وبالله التوفيق.
ثم ذكر أضدادهم، فقال: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ }.