التفاسير

< >
عرض

فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ
٢٩
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ
٣٠
قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ
٣١
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
٣٢
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ
٣٣
فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
٣٤
أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ
٣٥
أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ
٣٦
أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُونَ
٣٧
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٣٨
أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ
٣٩
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ
٤٠
أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ
٤١
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ
٤٢
أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٤٣
-الطور

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { فذكِّرْ } أي: فاثبت على ما أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم، { فما أنت بنعمتِ ربك } أي: بحمده وإنعامه عليك بالنبوة ورجاحة العقل { بكاهنٍ ولا مجنونٍ } كما زعموا، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون، { أم يقولون شاعرٌ نتربصُ به رَيْبَ المَنونِ } أي: حوادث الدهر، أي: ننتظر به نوائب الزمان حتى يهلك كما هلك الشعراء من قبله، زهير والنابغة. و"أم" في هذه الآي منقطعة بمعنى "بل". { قل تربصوا فإِني معكم من المتربصين } أتربّص هلاككم، كما تتربصون هلاكي. وفيه عِدة كريمة بإهلاكهم، وقد جرب أنّ مَن تربص موت أحد لِينال رئاسته، أو ما عنده، لا يموت إلا قبله.
{ أم تأمرهم أحلامُهم } أي: عقولهم { بهذا } التناقض في المقالات، فإنَّ الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر في الأمور، والمجنون مُغطى عقله، مختل فكره، والشاعر يقول ما لا يفعل، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في واحد؟ وكانت قريش يُدْعَون أهل الأحلام والنُهي، فكذبهم ما صدر منهم من هذه المقالات المضطربة، { أم هم قوم طاغُون } يجُازون الحدودَ في المكابرة والعناد، ولا يحومون حول الرشد والسداد. وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز.
{ أم يقولون تَقوَّله } اختلقته من تلقاء نفسه، { بل لا يؤمنون } ردّ عليهم، أي: ليس الأمر كما زعموا، بل لكفرهم وعنادهم يقذفون بهذه الأباطيل، التي لا يخفى بطلانها على أحد، فكيف يقدر البشر أن يأتي بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم، { فليأتوا بحديثٍ مِثْلِه } أي: مثل القرآن في البلاغة والإعجاز { إِن كانوا صادقين } في أن محمداً تقوّله من تلقاء نفسه؛ لأنه بلغاتهم، وهم فصحاء، مشاركون له صلى الله عليه وسلم في العربية والبلاغة، مع ما لهم من طُول الممارسة للخطب والأشعار، وكثرة المقاولة للنظم والثر، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام، ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به مع دواعي الأمر بذلك من تعجيزهم وإفحامهم وطلب معارضتهم.
{ أم خُلقوا من غير شيءٍ } أي: أم أُحدثوا وقُدّروا هذا التقدير البديع، الذي عليه فطرتهم، من غير محدث ومقدّر. أو: أم خُلقوا من غير شيء من الحكمة، بأن خُلقوا عبثاً، فلا يتوجه عليهم حساب ولا عقاب؟ { أم هم الخالقون } المُوجدون لأنفسهم؟ فيلزم عليه الدور، وهو تقدُّم الشيء على نفسه وتأخُّره عنها، { أم خَلقوا السماوات والأرض } فلا يعبدون خالقِهما { بل لا يُوقنون } لا يتدبرون في الآيات، فيعلمون خالقهم، وخالق السموات والأرض، فيُفردونه بالعبادة.
{ أم عندهم خزائنُ ربك } من النبوة والرزق وغيرهما، فيخصُّوا بما شاؤوا مَن شاؤوا، { أم هم المصَيْطِرون } أي: الأرباب الغالبون، المُسلَّطون على الأمور يدبرونها كيف شاؤوا، حتى يُدبروا أمر الربوبية، ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم. وقرأ المكي والشامي بالسين على الأصل.
{ أم لهم سُلَّمٌ } منصوب يرتقون به إلى السماء، { يستمعون فيه } كلامَ الملائكة، وما يُوحى إليهم من علم الغيب، حتى يعلموا أن ما هم عليه حق، وما عليه غيرهم باطل، أو ما هو كائن من الأمور التي يتفوّهون بها رجماً بالغيب، ويعلّقون بها أطماعهم الفارغة من هلاكه صلى الله عليه وسلم قبلهم، وانفرادهم بالرئاسة. و"في": سببية، أي: يستمعون بسبب حصولهم فيه، أو: ضمّن "يستمعون" يعرجون. وقال الزجاج: { يستمعون فيه } أي: عليه، { فليأت مُستمعهم بسلطانٍ مبين } بحجة واضحة، تصدق استماع مستمعهم.
ثم سفَّه أحلامهم بقوله: { أم له البناتُ ولكم البنونَ } حيث اختاروا لله ما يكروهون وهم حكماء في زعمهم، { أم تسألُهم أجراً } على التبليغ والإنذار { فهم } لأجل ذلك { من مَغْرَم مُثقلون } أي: من التزام غرامة فادحة محمّلون الثقل، فلذلك لا يتبعونك. والمغرم: أن يُلزم الإنسان ما ليس عليه. { أم عندهم الغيبُ } أي: اللوح المحفوظ، المكتوب فيه الغيوب، { فهم يكتبون } ما فيه، حتى يتكلمون في ذلك بنفي أو إثبات.
{ أم يُريدون كيداً } هو كيدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، { فالذين كفروا } وهم المذكورون، ووضع الموصول موضع ضميرهم؛ للتسجيل عليهم بالكفر، أي: فـ { هم المكِيدُونَ } الذين يحيق بهم كيدّهم، ويعود عليه وبالُه، لا مَن أرادوا أن يكيدوه وهو ما أصابهم يوم بدر وغيره. { أَم لهم إِلهٌ غيرُ الله } يمنعهم من عذابه، { سبحان الله عما يُشركون } أي: تنزيهاً له عن إشراكهم، أو: عن شركة ما يُشركونه به. وحاصل ما ذكر الحق وتعالى من الإضرابات: أحد عشر، ثمانية طعنوا بها في جانب النبوة، وثلاثة في جانب الربوبية، وهو قوله: { أم خُلقوا من غير شيء }، { أم خَلقوا السماوات والأرض }، { أم لهم إله غير الله } ذكرها الحق تعالى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي: كما طعنوا في جنابك طعنوا في جانبي، فاصبر حتى نأخذهم.
الإشارة: فذكِّر أيها الخليفة للرسول، فما أنت بحمد الله بكاهنٍ ولا مجنونٍ، وإن رموك بشيء من ذلك. قال القشيري: قد علموا أنه صلى الله عليه وسلم بريء من الكهانة والجنون، ولكنهم قالوه على جهة الاشتفاء، كالسفيه إذا بسط لسانه فيمن يشنأُه، بما يعلم أنه بريء مما يقوله. هـ. وكل ما قيل في جانب النبوة يُقال مثله في جانب الولاية، سُنَّة ماضية.قال القشيري: طبع الإنسان متنفرة من حقيقة الدين، مجبولة على حب الدنيا والحظوظ، لا يمكن الخروج منها إلا بجهد جهيد، على قانون الشريعة، ومتابعة الرسول عليه السلام وخلفائه، وهم العلماء الربانيون، الراسخون في العلم بالله، من المشايخ المُسلِّكين في كل زمان، والخلق مع دعوى إسلامهم يُنكرون على سيرهم في الأغلب، ويستبعدون ترك الدنيا والعزلة، والانقطاع عن الخلق، والتبتُّل إلى الله، وطلب الأمن. كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيَّدهم بروح منه، وهو الصدق في الطلب، وحسن الإرادة المنتجَة من بذر { يُحبهم ويُحبونه } وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. هـ. مختصراً.
وقوله تعالى: { قل تربصوا... } الآية، قال القشيري: ولا ينبغي لأحد أن يتمنى نفاق سوقه بموت أحد، لتنتهي النوبة إليه، قَلَّ ما تكون هذه صفته إلا سَبَقَته منيتُه، ولا يدرك ما تمناه. هـ. وقال في مختصره: الآية تُشير إلى التصبُّر في الأمور، ودعوة الخلق إلى الله، والتوكُّل على الله فيما يجري على يد عباده، والتسليم لأحكامه في المقبولين والمردودين. هـ. وقوله: { أم تأمرهم أحلامُهم بهذا }... إلى قوله: { عما يشركون } هذه صفة أهل الانتقاد على أهل الخصوصية في كل زمان، وهي تدلّ على غاية حمقهم وسفههم، نجانا الله من جميع ذلك.
ثم هدّدهم بعد تبيين عنادهم، فقال: { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ }.