التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ
٣٣
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ
٣٤
نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ
٣٥
وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ
٣٦
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٧
وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ
٣٨
فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٩
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ
٤٠
-القمر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { كذبت قومُ لوط بالنُذر } وقد تقدّم، { إِنّا أرسلنا عليهم } أي: على قوم لوط { حاصِباً } أي: ريحاً تحصبهم، أي: ترميهم بالحصباء، { إِلا آلَ لوطٍ } ابنتيه ومَن آمن معه، { نجيناهم بسَحَرٍ } ملتبسين بسَحَرٍ من الأسحار، ولذا صرفه، وهو آخر الليل، أو: السُدس الأخير منه، وقيل: هما سحران، فالسَحَر الأعلى: قبل انصداع الفجر، والآخر: عند انصداعه، { نعمةً مِن عندنا } أي: إنعاماً منا، وهو علة لنجَّينا، { كذلك } أي: مثل ذلك الجزاء العجيب { نجزي من شَكَرَ } نعمتنا بالإيمان والطاعة.
{ ولقد أَنذَرَهم } لوط { بطشَتنا } أخذتنا الشديدة بالعذاب، { فتمَارَوا } فكذّبوا { بالنُذُر } بإنذاره متشاكّين فيه، { ولقد راودوه عن ضيفه } قصدوا الفجور بأضيافه، { فطمسنا أعينَهم } فمسخناها وسويناها كسائر الوجه، أي: صارت وجوههم صفيحة واحدة لا ثقب فيها.
رُوي أنهم لمَّا قصدوا دار لوط، وعالجوا بابها ليدخلوا، قالت الرسل للوط: خلّ بينهم وبين الدخول، فإنّا رُسل ربك، لن يصلوا إليك. وفي رواية: لمّا مُنعوا من الباب تسوّروا الحائط، فدخلوا، فصفعهم جبريل بجناحه؛ فتركهم عُمياً يترددون، ولا يهتدون إلى الباب، فأخرجهم لوط عُمياً. وقلنا لهم على ألسنة الرسل، أو بلسان الحال: { فذُوقوا عذابي ونُذُرِ } أي: وبال إنذاري، والمراد به: الطمس؛ فإنه من جملة ما أُنذروا به.
{ ولقد صبَّحهم بُكرةً } أول النهار { عذابٌ مستقِرٌ } لا يفارقهم حتى يُسلمهم إلى النار، وفي وصفه بالاستقرار إيماء إلى أنّ عذاب الطمس ينتهي إليه، { فذوقوا عذابي ونُذُرِ } حكاية لما قيل لهم حينئذ من جهته - تعالى - تشديداً للعتاب.
{ ولقد يَسَّرنا القرآنَ للذكر فهل من مُّدكرِ } قال النسفي: وفائدة تكرير هذه الآية، أن يجدّدوا عند سماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكاراً واتعاظاً إذا سمعوا الحث على ذلك، وأن يستأنفوا تنبُّهاً واستيقاظاً إذا سمعوا الحثّ على ذلك، وهكذا حكم التكرير في قوله:
{ فَبِأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكّذِّبَانِ } [الرحمن: 13] عند كل نعمة عدّها، وقوله: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات: 15] عند كل آية أوردها، وكذا تكرير القصص في أنفسها؛ لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب، مصوّرة في الأذهان، مذكّرة غير منسيّةٍ في كل أوان. هـ.
الإشارة: قال القشيري: يُشير إلى أنَّ كل مَن غلبته الشهوةُ البهيمية - شهوة الجماع - يجب عليه أن يقهر تلك الصفة، ويكسرها بأحجار ذكر "لا إله إلا الله"، ويُعالج تلك الصفة بضدها، وهو العفة. هـ. فالإشارة بقوم لوط إلى الشهوات الجسمانية، فقد كذّب الروحَ حين دعتها إلى مقام الصفا، ودعتها النفسُ بالميل إليها إلى الحضيض الأسفل، فإذا أراد اللّهُ نصر عبده أرسل عليها حاصب الواردات والمجاهدات، فمحتْ أوصافها الذميمة، ونقلتها إلى مقام الروحانية، قال تعالى: { إنا أرسلنا عليه حاصباً إلا آل لوط } يعني الأوصاف المحمودة، نجيناهم في آخر ليل القطيعة، أو: الروح وأوصافها الحميدة، نجيناها في وقت النفحات من التدنُّس بأوصاف النفس الأمّارة، نعمةً من عندنا، لا بمجاهدة ولا سبب، كذلك نَجزي من شكر نعمة العناية، وشكر مَن جاءت على يديه الهداية، وهم الوسائط من شيوخ التربية. ولقد أنذر الروحُ النفسَ وهواها وجنودها بطشَتنا: قهرنا، بوارد قهري، مِن خوف مُزعج، أو شوقٍ مُقلق، حتى يُخرجها من وطنها، فتَماروا بالنُذر، وقالوا: لم يبقَ مَن يُخرجنا مِن وطننا، فقد انقطعت التربية، ولا يمكن إخراجنا بغيرها، ولقد راودوه عن ضيفه، راودوا الروحَ عن نور معرفته ويقينه، بالميل إلى شهوات النفس؛ فطمسنا أعينهم، فلم يتمكنوا من رد الروح إذا سبقت لها العناية، فيُقال للنفس وجنودِها، ذوقوا عذابي ونُذُري بالبقاء مع الخواطر والهموم، ولقد صبّحهم أول نهار المعرفة حين أشرقت شموس العيان عذاب مستقر، وهو مَحق أوصاف النفس، والغيبة عنها أبداً سرمداً. والله تعالى أعلم.
ثم ذَكَرَ قوم فرعون، تعالى: { وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ ٱلنُّذُرُ }.