التفاسير

< >
عرض

أَكُفَّٰرُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي ٱلزُّبُرِ
٤٣
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ
٤٤
سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ
٤٥
بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ
٤٦
إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ
٤٧
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ
٤٨
-القمر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { أكُفاركم } يا معشر العرب: أو: يا أهل مكة { خيرٌ من أُولئِكم } الكفار المعدودين في السورة؛ قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، والمعنى: أنه أصابهم ما أصابهم مع ظهور خيريتهم منكم قوةً وآلةً ومكانةً في الدنيا، أو: كانوا أقلّ منكم كفراً وعناداً، فهل تطمعون ألاَّ يُصيبكم مثل ما أصابهم، وأنتم شر منهم مكانةً، وأسوأ حالاً؟ { أم لكم براءةٌ في الزُبُر } أم نزلت عليكم يا أهل مكة براءة في الكتب المتقدمة: أنَّ مَن كفر منكم وكذّب الرسول كان آمناً مِن عذاب الله، فأمِنتم بتلك البراءة؟
{ أم يقولون نحنُ جميعٌ } أي: جماعة أمرنا جميع { منتصِرٌ } ممتنع لا نُرام ولا نُضام، والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم، وإسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية قبائحهم لغيرهم، أي: أيقولون واثقين بشوكتهم: نحن أولو حزم ورأي، أمرنا مجتمع لا يقدَر علينا، أو: منتصرون من الأعداء، لا نغلب، أو: متناصرون، ينصر بعضُنا بعضاً. والإفراد باعتبار لفظ "جميع".
{ سيُهزم الجَمْعُ } جمع أهل مكة، { ويُولُّون الدُّبر } الأدبار. والتوحيد لإرادة الجنس، أو: إرادة أنّ كل منهم يُولّي دبره، وقد كان كذلك يوم بدر. قال عمر رضي الله عنه: لما نزلت: { سيهزم الجمع ويُولون الدبر } كنت لا أدري أي جمع يُهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يلبس الدرع، ويقول: { سيُهزم الجمع ويُولون الدبر } فعرفت تأويلها، فالآية مكية على الصحيح، { بل الساعةُ موعدُهُم } أي: ليس هذا تمام عقوبتهم، بل الساعة موعد أصل عذابهم، وهذا طلائعه، { والساعةُ أدْهَى وأَمرُّ } أي: أقصى غاية من الفظاعة والمرارة من عذاب الدنيا. والداهية: الأمر الفظيع الذي لا يُهْتَدَى إلى الخلاص منه، وإظهار الساعة في موضع إضمارها تربيةً لهولها.
{ إِنَّ المجرمين } من الأولين والآخرين { في ضلالٍ } عن الحق في الدنيا { وسُعُرٍ } ونيران تحرق في الآخرة، أو: لفي هلاك ونيران مسعرة، { يوم يُسحبون في النار } يُجرّون فيها { على وجوههم } ويقال لهم: { ذُوقوا مَسَّ سَقَرَ } أي: قيسوا حرها وأَلمها، كقولك: وَجَدَ مسَّ الحمَّى، وذاق طعم الضرب؛ لأن النار إذا أصابتهم بحرّها فكأنها تمسهم مسّاً بذلك، و"سقر" غير مصروف للعلمية والتعريف؛ لأنها علم لجهنم، من: سقَرتْه النار: إذا لَوّحتْه.
الإشارة: ما قيل في منكري خصوصية النبوة، يُقال في منكري خصوصية الولاية إذا استغل بأذاهم، يعني: أنَّ مَن أنكر على الأولياء المتقدمين قد أصابهم ما أصابهم، إما ذُل في الظاهر، أو طرد في الباطن، وأنتم أيها المنكرون على أهل زمانكم مثلُهم. أمنتقدكم خير مِن أولئكم أم لكم براءة مِن العذاب في كتب الله تعالى؟ أم يقولون: نحن جميع، أي: مجتمعون على الدين، لا يُصيبنا ما أصاب الكفار، فيُقال لهم: سيُهزم جمعكم، ويتفرّق شملكم، وتُفضوا إلى ما أسلفتم، نادمين على ما فعلتم، ولن ينفع الندم حين تزل القدم، فتبقون في حسرة البُعد على الدوام، فالكفار حُرموا من جنة الزخارف، وأنتم تُحرمون من جنة المعارف، مع غم الحجاب وذُل البُعد عن الحضرة القدسية، إن المجرمين - وهم أهل الطعن والانتقاد - في ضلال عن طريق الوصول إلى الله، ونيران القطيعة، يوم يُسْبَحون على وجوههم، فينهمكون في الدنيا في الحظوظ والشهوات، وفي الآخرة في نار البُعد والقطيعة، على دوام الأوقات، ويقال لهم: ذُوقوا مرارةَ الحجاب وسوء الحساب، وكل هذا بقدر وقضاء سابق، كما قال تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }.