التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٨
لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
-الحديد

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { يأيها الذين آمنوا } بالرسل المتقدمة { اتقوا اللهَ } أي: خافوه { وآمِنوا برسوله } محمدٍ صلى الله عليه وسلم، المذكور في كتابكم، { يُؤتِكم كِفْلَين } نصيبين { من رحمته } لإيمانكم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبمَن قبله، لكن لا بمعنى أن شريعتهم باقية بعد البعثة، بل على أنها كانت حقاً قبل النسخ، وإنما أعطى مَن آمن بنبينا كفلين مع بطلان شريعته، لصعوبة الخروج عن الإلف والعادة، { ويجعل لكم نوراً تمشون به } يوم القيامة، كما سبق للمؤمنين في قوله: { يَسْعَى نُورُهُم... } [الحديد: 12] الخ، { ويغفرْ لكم } ما أسلفتم من الكفر والمعاصي، { واللهُ غفور رحيم } ويؤيد هذا التأويل وأنَّ الخطاب لأهل الكتاب: قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي..." الحديث. وقيل: الخطاب للمؤمنين، أي: يأيها الذين آمنوا اتقوا الله فيما نهاكم عنه، ودُوموا على إيمانكم، يؤتكم كفلين...الخ، ويؤيد هذا حديث الصحيحين: "مَثَلُ أهل الكتاب قبلنا كمثل رجل استأجر أُجراء يعملون إلى الليل على قيراط قيراط، فعملت اليهود إلى نصف النهار، ثم عجزوا، ثم عملت النصارى إلى العصر، فعجزوا، ثم عملتم إلى الليل، فاستوفيتم أجر الفريقين، فقيل: ما شأن هؤلاء أقل عملاً وأعظم أجراً؟ فقال: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ذلك فضلي أوتيه مَن أشاء" .
قيل: لمّا نزل قوله: { أولئك يُؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزل. { يا أيها الذين آمنوا... } الخ. ولمّا نزلت هذه الآية الكريمة في هذا الوعد الكريم للمؤمنين حسدتهم اليهود، فأنزل الله: { لئلا يعلم أهل الكتاب ألاَّ يقدرون على شيء... } الخ، أي: إنما خصصت المسلمين بذلك ليعلم أهل الكتاب أنه، أي: الأمر والشأن لا يملكون فضل الله، ولا يدخل تحت قدرتهم، فـ"إن" مخففة، واسمها: ضمير الشأن، و(لا) مزيدة، أي: ليعلم أهل الكتاب أنه لا يقدرون { على شيءٍ من فضل الله } ولا يملكونه، حتى يخصوا به مَن شاؤوا، { و } ليعلموا أيضاً { أنَّ الفضلَ بيد الله } في ملكه وتصرفه، { يُؤتيه من يشاء } من عباده { واللّهُ ذو الفضل العظيم } لا نهاية لفضله. وعلى أنَّ الخطاب لأهل الكتاب يكون قوله: { لئلا يعلم أهل الكتاب } أي: مَن لم يؤمن منهم، فيكون راجعاً لمضمون الجملة الطلبية، المتضمنة لمعنى الشرط، أي: { يا أيها الذين آمنوا } بموسى وعيسى { اتقوا الله وآمنوا برسوله } فإن فعلتم ذلك { يُؤتكم كفلين من رحمته... } الخ، وإنما جَعلتُ هذا لمَن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا به أنهم لا يملكون من فضل الله شيئاً، وأنَّ الفضل بيد الله... الخ.
الإشارة: تنسحب هذه الآية من طريق الإشارة على مَن كانت في أسلافه خصوصية ولاية، أو صلاح، أو شرف علم أو رئاسة مَّا، ثم ظهرت التربية الحقيقية في غير أسلافه، فإن حطّ رأسه وصَدّق بالخصوصية لغيره أعطي أجره مرتين، وعظم قدره في مقام الولاية، وإنما كانت تنتقل دولة الولاية؛ ليعلم أهلُ الخصوصية المتقدمة أنّ الفضل بيد الله، يُؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم. والله الموفق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه، وسلّم.