التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
١٤
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٥
ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
١٦
لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
١٧
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ
١٨
ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ
١٩
-المجادلة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِين تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم } وهم اليهود، لقوله: { مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة: 60]. والغضب في حقه تعالى: إرادة الانتقام. كان المنافقون يتولّون اليهود، وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، ففضحهم الله. ثم قال تعالى: { ما هم منكم } يا معشر المسلمين { ولا منهم } أي: من اليهود، بل كانوا { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } [النساء: 143]. { ويحلفون على الكذب } أي: يقولون: والله إنّا لمسلمون لا منافقون، { وهم يعلمون } أنهم كاذبون منافقون، { أعدَّ اللهُ لهم عذاباً شديداً } نوعاً من العذاب متفاقماً، { إِنهم ساء ما كانوا يعملون } فيما مضى من الزمان، كانوا مُصرِّين على سوء العمل، وتمرّنوا عليه، أو: هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة.
{ اتخَذُوا أَيمانهم } الكاذبة { جُنَّةً } وقايةً دون أموالهم ودمائهم، { فصَدُّوا } الناسَ في خلال أمنهم وسلامتهم، أو: فصدُّوا بأنفسهم { عن سبيل الله } عن طاعته والإيمان به، { فلهم عذابٌ مُهين } يُهينهم ويُخزيهم، وأعدّ لهم العذاب المخزي لكفرهم وصدهم، كقوله:
{ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الَعَذَابِ } [النحل: 88]. { لن تُغني عنهم أموالُهم ولا أولادُهم من الله } من عذاب الله { شيئاً } قليلاً من الإغناء، أي: ما يخافون عليه من الأموال والأولاد فيحلفون لأجله، لا ينفعهم عند الله. رُوي أنَّ رجلاً منهم قال: لنُنصرنّ يوم القيامة بأموالنا وأنفسنا وأولادنا. فنزلت. { أولئك } الموصوفون بما ذكر من القبائح { أصحابُ النار } ملازموها { هم فيها خالدون }.
{ يومَ يبعثهم اللهُ جميعاً فيحلِفون له } أي: لله تعالى في الآخرة أنهم كانوا مُخلِصين غير منافقين، { كما يحلفون لكم } في الدنيا على ذلك، { ويَحْسَبون أنهم } في الدنيا { على شيءٍ } من النفع، أو: يحسبون في الآخرة أنهم على شيءٍ من النفع، مِن جلب منفعة أو دفع مضرة، كما كانوا في الدنيا، حيث كانوا يدفعون بها عن أزواجهم وأموالهم، { ألا إِنهم هم الكاذبون } البالغون في الكذب إلى غايةٍ لا مطمح وراءها، حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علاّم الغيوب.
{ استحوذَ عليهم الشيطانُ } استولى عليهم ومَلَكَهم، { فأنساهم ذكرَ الله } بحيث لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم، { أولئك حزبُ الشيطان } أي: جنوده وأتباعه، { ألا إِنّ حزبَ الشيطان هم الخاسرون } أي: الموصوفون بالخسران الذي لا غياية وراءه، حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم، وأخذوا بدله العذاب الأليم، وفي تصدير الجمة بحرفي التنبيه والتحقيق، وإظهار الشيطان معاً في موضع الإضمارِ، وتوسيط ضمير الفصل، من فنون التأكيد ما لا يخفى.
الإشارة: منافقون الصوفية هم الذين يُقرُّون أهلَ الظاهر وينصرونهم، ويُنكرون على أهل الباطن، فإذا لقوهم أظهروا لهم المودّة والوفاق، وادَّعوا أنهم منهم، فهم مذبذبون بين ذلك، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، ليسوا من أهل الظاهر المحض، ولا من أهل الباطن، لعدم تحققهم به، تجر الآية ذيلَها عليهم. والعذاب المعدّ لهم غم الحجاب، وتخلُّفهم عن درجات المقربين. قوله تعالى: { اتخذوا أَيمانهم جُنة } قال القشيري: مَن استتر بحُجة طاعته لأجل دنياه؛ انكشف لسهام التقدير من حيث لا يشعر، ثم لا دينُه يبقى، ولا دنياه تَسْلَم. قال تعالى: { لن تُغني عنهم أموالُهم ولا أولادهم من الله شيئاً } الآية. هـ. يوم يبعثهم الله جميعاً فيتحاشون إلى المقربين، ويحلفون بلسان حالهم: أنهم كانوا منهم، كما يحلفون اليوم، ويظنون أنهم من أهل الباطن، ويحسبون أنهم على شيء، فيبدوا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وذلك لعدم صُحبتهم للعارفين المخلِصين، حصل لهم الغلظ، فوقفوا مع حُسبانهم الضال، ولو دامت صُحبتُهم لأهل التوحيد الخاص لتنبّهوا لغلطهم. استحوذ عليهم الشيطانُ، فزيّن لهم الوقوفَ مع ما هم فيه، فأنساهم ذكرَ العيان، فكانوا من حزب الشيطان في الجملة، بالنسبة إلى مَن فوقهم. قال شاة الكرماني: علامة استحواذ الشيطان على العبد: أن يشغله بعمارة ظاهره، من المأكل والملبس، ويشغل قلبه عن التفكُّر في آلاء الله ونعمائه، والقيام بشكرها، ويشغل لسانه عن ذكر ربه، بالكذب والغيبة والبهتان، ويشغل قلبه عن التفكُّر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها. هـ.
ثم ذكر مآل حزب الشيطان، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }.