التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٨
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
١٩
لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ
٢٠
-الحشر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحقّ جلّ جلاله: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } في كل ما تأتون وتذرون، { ولتنظرْ نَفْس ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ } أي: أيّ شيء قدمت من الأعمال الصالحة ليوم القيامة. سمّاه باليوم الذي يلي يومك تقريبًا له، أو عبّر عن الآخرة بالغد، كأنّ الدنيا والآخرة نهاران يوم وغد، وتنكيره لتفخيمه وتهويله، كأنه قيل: لغد لا يعرف كنهه لغاية عِظمه. وعن مالك بن دينار: مكتوب على باب الجنة: وجدنا ما عملنا، ربحنا ما قدّمنا، خسرنا ما خلفنا. { واتقوا اللهَ }، كرر تأكيدًا للأمر بالتقوى، أو الأول في أداء الواجبات، كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل، وهذا في ترك المعاصي، كما يؤذن به الوعيد في قوله: { إِنَّ الله خبير بما تعملون } أي: من المعاصي.
{ ولا تكونوا كالذين نَسُوا اللهَ } أي: نسوا حقوقه تعالى أو: تركوا ذكره، { فأنساهم أنفسهم }؛ فأهملهم ولم يذكرهم بتوفيقِ ولا هداية، أو: جعلهم ناسين لها حتى لم يسمعوا ما ينفعها، ولم يفعلوا ما يخلصها، أو: أراهم يوم القيامة من الأهوال ما أنساهم أنفسهم، { أولئك هم الفاسقون }؛ الكاملون في الفسق.
{ لا يستوي أصحابُ النار } الذي نسوا الله فاستحقُّوا الخلود في النار { وأصحابُ الجنة } الذين اتقوا الله، فاستحقُّوا الخلود في الجنة، { أصحابُ الجنة هم الفائزون }، وهذا تنبيه وإيقاظ وإيذان بأن غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة، وتهالكهم، على إيثار العاجلة واتباع الشهوات، كأنهم لايعرفون الفرق بين الجنة والنار، والبَوْن العظيم بين أصحابها، وأنَّ الفوز العظيم لأصحاب الجنة، والعذاب الأليم لأصحاب النار، فمِن حقهم أن يعلموا وينتبهوا له، كما تقول لمَن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة مَن لا يعرفه؛ لتنبهه بذلك على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطُّف. واستدل بالآية على أنّ المسلم لا يُقتل بالكافر، وأنَّ الكفار لا يملكون أموال المسلمين، ورُدَّ بأنَّ عدم الاستواء إنما هو في الأحوال الأخروية، لا الدنيوية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله }، أن تشهدوا معه سواه { ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ } من المعرفة، فإنّ الشهود يوم القيامة على قدر المعرفة هنا، "واتقوا الله" فلا تؤثروا عليه سواه، { ولا تكونوا كالذين نسوا الله } أي: ذكره والتوجه إليه، "فأنساهم أنفسهم" أي: غيّبهم عن إصلاحها وعلاجها، حتى ماتت في أودية الخواطر والشكوك، "أولئك هم الفاسقون" الخارجون عن الحضرة المقدسة. "لا يستوي أصحاب النار" أي: نار القطيعة والحجاب "وأصحاب الجنة" أي: جنة المعارف, "أصحاب الجنة هم الفائزون" بكل مطلوب، الناجون من كل مرهوب.
ولمَّا لم تؤثر هذه المواعظ في بعض القلوب، صارت أقبح من الحجر، فإنَّ الجبل لو نزل عليه هذا القرآن لخشع، كما قال تعالى: { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً }.