التفاسير

< >
عرض

لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ
٨
وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٩
وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٠
-الحشر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "للفقراء" يتعلق بمحذوف، أي: يعطي، أو: اعْجَبوا، على أنه استئناف، وقيل: بدل من "ذي القربى". و"وتبوؤوا الدارَ والإيمان" أي: وأَلِفوا الإيمان، ولا يصح العطف؛ لئلا يلزم أنّ الإيمان متبوأ، وإنما يُتبوأ المنزل؛ إذ التبوء: التهيؤ، يقال: بوأت له منزلاً، أي: هيأته له، وفي إعراب الحوفي في سورة آل عمران: يقال تبوأ فلان الدار إذا لزمها. هـ. فعلى هذا يصح العطف، ولا يحتاج إلى تقدير عاملٍ آخر. قال ابن هشام: ولا يجوز كون الإيمان مفعولاً معه؛ لعدم الفائدة في تقييد الأنصار المعطوفين على المهاجرين بمصاحبة الإيمان, إذ هو أمر معلوم. هـ. وانظر ابن جزي، فإنه هو الوجه المستحسن عنده في توجيه الآية، والمعنى: أنهم جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان، لا بنزول الدار، قال: فيكون الإيمان على هذا مفعولاً معه، وأصله لابن عطية، وبهذا الاقتراح يصح معنى قوله: { مِن قبلهم } فتأمله. انظر الحاشية.
يقول الحق جلّ جلاله: { للفقراءِ } أي: يعطى الفيء للفقراء { المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالِهم } حيث اضطرهم كفارُ مكة إلى الخروج من مكة، وكانوا مائة رجل. وفيه دليل على أنّ الكفار يملكون ما استولوا عليه من أموال المسلمين؛ لأنّ الله تعالى سمّاهم فقراء، مع أنهم كانت لهم ديار وأموال بمكة، فخرجوا { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } أي: طالبين منه تعالى رزقاً في الدنيا، ورضا في الآخرة، أو: يطلبون الجنة ورضوان الله أو: زيادة في الإيمان والرضوان، { وينصرون اللهَ ورسولَه } أي: ناوين نصرة دين الله وإعانة رسوله، { أولئك } الموصوفون بما فصّل من الصفات الحميدة { هُم الصادقون }؛ الراسخون في الصدق، حيث ظهر ذلك عليهم؛ بما فعلوا من مفارقة الأوطان والأهل والولدان.
{ والذين تبوؤوا الدارَ والإِيمانَ }، هذا استئناف مسوق لمدح الأنصار بخصال حميدة، من جملتها: محبتهم للمهاجرين، ورضاهم باختصاصهم بالفيء أكمل رضا، أي: اتخذوا المدينة والإيمان مباءة وسكناً وتمكّنوا فيهما أشد تمكين، { مِن قبلهم } أي: من قبل هجرة المهاجرين, أو تبوؤوا الدار ولزموا الإيمان، ولزومه: إخلاصه وظهور شعائره وأحكامه، ولا ريب في تقدُّم الأنصار في ذلك على المهاجرين؛ لأنّ المهاجرين لم يتأتَّ لهم أظهاره قبل الهجرة، فتقدمهم في إظهاره فقط، لا في إخلاصه؛ إذ لا يتصور تقدمهم عليهم في ذلك.
{ يُحبون مَنْ هاجر إليهم } حتى شاطروهم أموالهم، وأنزلوهم منازلهم، ونزل مَن كانت له امرأتان عن إحداهما ليتزوجها المهاجري، ومحبتهم للمهاجرين من حيث هجرتهم لنصرة الدين لشدة محبتهم للإيمان، { ولا يجدون في صُدورهم }؛ في نفوسهم { حاجةً } أي: شيئاً محتاجاً إليه، يقال: خذ منه حاجتك، أي: ما تحتاج إليه، يعني: أنّ نفوسهم لم تتبع ما أوتوا من الفيء، ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه، وقيل: حاجة: حسداً أو كزازة، مما أُعطي المهاجرون من الفيء، حيث خصّهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم به.
{ ويُؤثرون على أنفسهم } أي: يُقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من أسباب المعاش، { ولو كان بهم خصاصةٌ } أي: حاجة وخلّة، وأصلها: خُصاص البيت، أي: فروجه. والجملة: حال، أي: يُؤثرون في حال خصاصتهم. قال ابن عباس: لما ظفر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأموال بني النضير، قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم, ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة, فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نُشاركهم فيها، فنزلت. وهذا صريح في أنَّ قوله تعالى: { والذين تبوؤوا الدار } استئناف غير معطوف على الفقراء المهاجرين، نعم يجوز عطفه عليهم باعتبار شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق، دون الفيء، فيكون قوله تعالى: { يُحبون } وما عطف عليه استئنافاً مقرراً لصدقهم، أو حال. قاله أبو السعود.
قلت: إذا جعلنا قولَه تعالى: { ما أفاء اللهُ على رسوله مِن أهل القُرى } استئنافاً غير مُبيّنِ لِما قبله، بل في كل فيء يأتي بعد بني النضير، صحّ عطف الأنصار على فقراء المهاجرين في كل شيء، وكذا قوله: { والذين جاؤوا مِن بعدهم } عطف عليهم، فيكون المعنى: يقسم الفيء للفقراء المهاجرين، وللذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم، وللذين جاؤوا مِن بعدهم. ويؤيد هذا ما رُوي أنّ عمر رضي الله عنه لمّا قرأ هذه الآية إلى آخرها قال: هذه الآية استوعبت المسلمين، ما على وجه الأرض مسلم إلاَّ وله في هذا الفيء حق، إلا ما ملكت أيْمَانهم. هـ.
وقيل: نزلت في
"ضيفٍ نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يجد عنده شيئاً، فقال صلى الله عليه وسلم: مَن يُضيف هذا؟ فقال: رجلٌ من الأنصار - قيل: أبو طلحة، أنا يا رسول الله، فلم يجد من الطعام إلاّ ما يكفي الصبية، فقال لامرأته: نوّمي الصبيان، وأطِفئي السراج، وقرّبي الطعام، فنظهر للضيف أنَّا نأكل معه، ونمضغ ألسنتنا ليأكل، فأكل الضيف وحده، فلما أصبح قال صلى الله عليه وسلم للرجل: إنَّ الله ضحك مِن فعلكما" . عن أنس: أُهدي لبعضهم رأس مشويّ، وهو مجهود، فَوَجَّهه إلى جارِه، وجارُه وَجَّهَه إلى جارِه، فتداولته تسعةُ أنْفُس، حتى عاد إلى الأول.
{ ومَن يُوق شُحَّ نفسه } أي: مَن يقيه الله شحَّ نفسه حتى يغالبها فيما يغلب عليها، مِن حب المال وبُغضَ الإنفاق، { فأولئك هم المفلحون }؛ الفائزون بكل مطلوب، والناجون من كل مرهوب. والشح - بالضم والكسر -: اللُّؤم، وأن تكون نفس الرجل كزّةً حريصة على المنع. وإضافته إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهم المنع نفسه، وقيل: الشُح: أكل مال أخيك ظلماً، والبخل: منع مالك، وقيل: الشُح: منع ما عندك والطمع في غيرك، والبُخل: منع مالك من غير طمع، فالشُح أقبح من البخل. والجملة: اعتراض وارد لمدح الأنصار بالسخاء، بعد مدحهم بالإيثار. وجميع الإشارة باعتبار "مَن" لأنها واقعة على الجمع.
ثم ذكر التابعين، فقال: { والذين جاؤوا مِن بعدهم } هم التابعون بإحسان إلى يوم القيامة، وقيل: هم الذين هاجروا بعدما قوي الإسلام، { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان }، وصفوهم بذلك اعترافاً بفضلهم، وعن عائشة رضي الله عنها:
"أُمِرُوا بأن يستغفروا لهم، فسبُّوهم" . { ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ } أي: حقداً وعداوة { للذين آمنوا } على الإطلاق، { ربنا إِنك رؤوف رحيم }؛ مبالغ في الرأفة والرحمة، فأنت حقيق بأن تجيب دعاءنا برأفتك ورحمتك.
الإشارة: الذين يستحقون المواهب، والفيض الإلهي والاصطفاء، ثلاث أصناف، الأول: الفقراء الذين هاجروا أوطانهم، وتركوا ديارهم وعشائرهم؛ طلباً لصلاح قلوبهم وأسرارهم، والثاني: القوم الذين نزلوا بهم إذا آووهم وآثروهم بأموالهم وأنفسهم، الثالث: مَن جاء بعدهم طلباً لذلك، على الوصف الذي ذكره الحق { يقولون ربنا اغفر لنا... } الخ. قال الورتجبي: قوله تعالى: { والذين تبوؤوا الدارَ والإيمان... } الخ، أثنى الله سبحانه على الفقراء، ووصَفَهم بأحسن الوصف، إذ كانوا صادقين في فقرهم، ثم أثنى على الأغنياء لِصدقهم في غناهم، ووصَفَهم بالإيمان والمعرفة بالله من قبلهم ولزومهم مواضع قربه، وخفضِهم جناحهم لإخوانهم من الفقراء، ومحبتهم، وتقديسهم من الحسد والشح والبُغض وحب الدنيا، ثم وَصَفَهم بالسخاء والإيثار، فلم يبقَ في قلوبهم من حب الدنيا وجاهها ذرة. ومَنْ سجيتُه مقدسة مِن حرص نفسه أفلح وظفر برؤية ربه. هـ. قلت: كأنه يشير إلى أنَّ قوله تعالى: { للفقراء المهاجرين } هم أهل السير من المريدين، وقوله تعالى: { والذين تبوؤوا الدار... } هو الواصلون العارفون، أي: تبوؤوا دارَ المعرفة، حيث سكنوها، ورسخوا فيها، وأَلفِوا الإيمان وذاقوا حلاوته.
وقوله تعالى: { ويُؤثرون على أنفسهم... } الخ، بعد أن وَصَفَهم بقطع الطمع والحرص، والزهد فيما لم يملكوا بقوله: { ولا يجدون في صدورهم حاجة } وَصَفَهم بالإيثار فيما ملكوا، وبذلك يتم تحقيق خروج الدنيا من قلوبهم، بحيث لا يتعلق القلب بما فات منها، ولا يُمسك ما وجد منها، بل يُؤثر به مع الحاجة إليه، فالآية تشير إلى سلامة الصدور، وسخاوة الأنفس، وهذا كان وصف الصحابة - رضي الله عنهم - وبهذين الخصلتين فاقوا جميعَ الناس، وهي أخلاق الصوفية - رضي الله عنهم - قال الشيخ أبو يزيد: ما غلبني أحد غير شاب من بَلْخ، قَدِمَ حاجًّا، فقال: يا أبا يزيد، ما الزهد عندكم؟ فقلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال: هكذا عندنا الكلاب ببلخ، فقلت: وما الزهد عندكم؟ فقال: إذا وجدنا آثرنا، وإذا فقدنا شكرنا. هـ. وسُئل ذو النون: ما حد الزاهد المشروح صدره؟ فقال: ثلاثة؛ تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت. هـ.
ثم عَجَّبَ من المنافقين، فقال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ }.