التفاسير

< >
عرض

يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
١٣٠
ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَٰفِلُونَ
١٣١
وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
١٣٢
وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ
١٣٣
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ
١٣٤
-الأنعام

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { ذلك أن لم يكن ربك }: خبر عن مضمر، وأن على حذف لام العلة، أي: الأمر ذلك؛ لأجل أن لم يكن ربك متصفًا بالظلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: يوم القيامة في توبيخ الكفار: { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } أي: من مجموعكم، أو رسل الجن: نُذُرُهم الذين يبلغون لهم شريعة الأنس؛ إذ ليس في الجن رسل على المشهور. ورَوى الطبري من طريق الضحاك بن مزاحم إثبات ذلك، واحتج بأنا لله تعالى أخبَر أن من الجن والإنس رسلاً أرسلوا إليهم، يعني ظاهر هذه الآية. وأجاب الجمهور بأن معنى الآية: أن رسل الإنس رسل من قبل الله أليهم، ورسل الجن يبلغون كلام رسل الأنس إليهم، ولهذا قال قائلهم:
{ { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى } [الأحقاف:30] الآية، فالرسالة إلى الجن خاصة بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي: مع الإنس.
حال كون الرسل الذين أتوكم { يقصون عليكم آياتي ويُنذرونكم لقاء يومكم هذا } يعني يوم القيامة، قالوا في الجواب: { شهدنا على أنفسنا } بالكفر والعصيان، وهو اعتراف منهم بما فعلوا.
قال تعالى: { وغرتهم الحياة الدنيا }؛ ألهتهم بزخرفها عن النظر والتفكر، { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين }، وهذا ذم لهم على سُوء نظرهم وخطأ رأيهم، فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات الفاتية، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية، حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد؛ تحذيرًا للسامعين وإرشادًا لهم. قاله البيضاوي.
ثم ذكر حكمة إرسال الرسل فقال: { ذلك } الإرسال حكمته لـ { أن لم يكن ربك مُهلك القرى بظلم وأهلها غافلون } أي: إنما أرسلَ الرسل لئلا يكون ظالمًا لهم بإهلاكهم بسبب ظلم فعلوه، وهم غافلون عن الإنذار، بحيث لم ينذرهم أحد، أو: لم يكن مهلك القرى ملتبسًا بظلم حيث أهلكهم من غير إنذار، ففاعل الظلم، على الأول: القرى، وعلى الثاني: الله تعالى، على تقدير إهلاكهم من غير إنذار. والأول يتمشى على مذهب المعتزلة، والثاني على مذهب أهل السنة. انظر ابن جزي.
{ ولكلٍّ } من الإنس والجن { درجات }؛ مراتب، { مما عملوا } من أجل أعمالهم بالخير والشر، فهم متفاوتون في النعيم والعذاب، وظاهر الآية: أن الجن يُثابون ويُعاقبون؛ لأنهم مكلفون، وهو المشهور، واختلف: هل يدخلون الجنة أم لا؟ فروى الطبري وابنُ أبي حاتم عن أبي الدرداء موقوفًا: أنهم يكونون ترابًا كسائر الحيوانات، ورُوِي عن أبي حنيفة مثله، وذهب الجمهور ـ وهو قول الأئمة الثلاثة والأوزاعي وأبي يوسف، وغيرهم؛ أنهم يثابون على الطاعة ويدخلون الجنة. ثم اختلفوا، هل يدخلون مدخل الإنس، وهو الأكثر، أو يكونون في ربض الجنة، وهو عن مالك وطائفته، أو أنهم أصحاب الأعراف، أو التوقف عن الجواب؟ في هذا أربعة أقوال، والله تعالى أعلم بغيبه. { وما ربك بغافل عما يعملون } فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق عليه من ثواب أو عقاب.
{ وربك الغني } عن العباد وعبادتهم، { ذو الرحمة } يترحم عليهم بالتكليف، تكميلاً، ويمهلهم على المعاصي حلمًا، وليس له حاجة في طاعة ولا معصية، { إن يشأ يُذهبكم } أيها العصاة، { ويستخلف من بعدكم ما يشاء } من الخلق، { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين }؛ فأنشأكم قرنًا بعد قرن، لكنه أبقاكم رحمة بكم، { إنَّ ما توعدون } من البعث وما بعده، { لآتٍ } لا محالة، { وما أنتم بمعجزين }؛ تعجزون قدرة الله الطالب لكم بالبعث والحساب.
الإشارة: كما أن الحق تعالى لم يُعذب الكفار إلا بعد إرسال الرسل، كذلك لا يُعاقب أهل الإصرار إلا بعد بعث الأطباء؛ وهم أهل التربية النبوية، فكل من لم يصحبهم وينقد إليهم مات مصرًا على الكبائر ـ أي: كبائر القلوب ـ وهو لا يشعر، فيلقى الله بقلب سقيم، فيعاقبه الحق تعالى على عدم صحبتهم، ومعاتبته له: بُعدُهُ عن مشاهدته وعن مقام المقربين، فإذا رأى مقام المقربين وقربهم من الحضرة، قال: غرتنا الحياة الدنيا ورخارفها، وجاهها ورياستها، وشهد على نفسه أنه كان غافلاً.
فحِكمة وجود الأولياء في كل قرن؛ لتقوم الحجة على أهل الغفلة، فإذا وقع البعد لقوم لم يكن الحقّ ظالمًا لهم، فالدرجات على حسب المقامات، والمقامات على حسب الأعمال، وأعمال القلوب هي التي تقرب إلى حضرة علام الغيوب، بها يقع القرب، وبالخلو عنها يقع البعد. وعليها دلت الأولياء بعد الأنبياء، لأن الأنبياء جاؤوا بالشريعة الظاهرة والحقيقة الباطنة، فمن رأوه أهلاً لسر الحقيقة دلًّوه عليها، فكان من المقربين، ومن رأوه ضعيفًا عنها دلوه على الشريعة، فكان من أصحاب اليمين. وبالله التوفيق.
ثم أمره بتهديد قريش وتخويفهم، فقال: { قُلْ يَاقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ }.