البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
قلت: { فاطر }: نعت لله، ومعناه: خالق ومبدع. قال ابن عباس رضي الله عنه: ( ما كُنت أعرف معنى فاطر، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطَرتها بيدي). وجملة: { وهو يطعم }: حال، وقُرِىء بعكس الأول؛ ببناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، على أن ضمير { هو } راجع لغير الله، وببنائهما للفاعل؛ على معنى يُطعِم تارة، ويمنع أخرى، كقوله: { { يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ } [البَقَرَة:245]، وجملة { إن عصيتُ }: معترضة بين الفعل والمفعول، والجواب: محذوف دل عليه ما قبله، أي: إن عصيتُ فإني أخاف عذاب يوم عظيم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { قل } لهم يا محمد: { أغير الله أتخذ وليًّا } أي: معبودًا أُواليه بالعبادة والمحبة، وأُشركه مع الله الذي أبدع السماوات والإرض، { وهو } الغني عما سواه، الصَّمَداني، { يُطعِمُ } ولا يحتاج إلى من يُطعمه، فهو يَرزُق ولا يُرزق، وتخصيص الطعام؛ لشدة الحاجة إليه { قُل } لهم: { إني أُمرتُ أن أكون أول من أسلم }، وأنقاد بكُلّيتي إلى هذا الإله الحقيقي، العني بالإنطلاق، وأرفضُ كل ما سواه، ممن عمّه الفقرُ ابتداءً ودوامًا. فكان عليه الصلاة والسلام هو أولَ سابق إلى الدين. ثم قيل له: { ولا تكونن من المشركين }؛ تنفيرًا لغيره من الشرك، وإلاّ فهو مبرَّأ منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
{ قل إني أخاف إن عصيت ربي } بالشرك وغيره { عذاب يوم عظيم }، وهذه مبالغة أخرى في قطع أطماعهم، وتعريض لهم بأنهم عصاة، مستوجبون للعذاب، { من يُصرف عنه } ذلك العذاب، { يومئدٍ } أي: يوم القيامة، { فقد رحمه } أي: نجاه، وأنعم عليه، { وذلك الفوز المبين } أي: وذلك الصرف أو الرحمة هو الفلاح المبين.
ثم ذكر حجة أخرى على استحقاقه للعبادة والولاية، فقال: { وإن يمسسك الله بضرّ } كمرض أو فقر، { فلا كاشف له إلا هو }؛ إذ لا يقدر على صرفه غيره، { وإن يمسسك بخير }؛ بنعمة، كصحة وغنى ومعرفة وعلم، { فهو على كل شيء قدير }، فهو قادر على حفظه وإدامته، ولا يقدر أحد على دفعه، كقوله تعالى: { { فَلآ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } [يُونس:107]، { وهو القاهر } لجميع خلقه؛ كلهم في قبضته، { فوق عباده } بهذه القهرية والغلبة والقدرة، { وهو الحكيم } في صنعه وتدبيره، { الخبير } بخفايا أمور عباده، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم الباطنة والظاهرة.
الإشارة: في الآية حَضٌّ على محبة الحق، وولايته على الدوام، ورفض كل ما سواه ممن عمَّه الفقر من الأنام، وفيها أيضًا: حثّ على المسابقة إلى الخيرات، والمبادرة إلى الطاعات، اقتداء بسيد أهل الأرض والسماوات، فكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ أول من عبد الله، وأول من توجه إلى مولاه، قال تعالى: { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعابِِِدِينَ } [الزّخرُف:81]، فلو جاز أن يتخذ ولدًا، لكنت أنا أولى به، لأني أنا أول من عبده.
قال الورتجبي: { قل إني أُمرت أن أكون أول من أسلم } أي: أمرني حين كنت جوهر فطرة الكون ـ حيث لم يكن غيري في الحضرة ـ أن أكول أول الخلق في المحبة والعشق والشوق، وأول الخلق له منقادًا بنعت محبتي له، راضيًا بربوبيته، غير منازع لأمر مشيئته. وقال بعضهم: أكون أول من انقاد للحق إذا ظهر. هـ.
ولما قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد: لقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرِنا مَن شهد لك؟ أنزل الله تعالى: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ }.