التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ
١٤
قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
١٥
مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ
١٦
وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ
١٧
وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ
١٨
-الأنعام

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { فاطر }: نعت لله، ومعناه: خالق ومبدع. قال ابن عباس رضي الله عنه: ( ما كُنت أعرف معنى فاطر، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطَرتها بيدي). وجملة: { وهو يطعم }: حال، وقُرِىء بعكس الأول؛ ببناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، على أن ضمير { هو } راجع لغير الله، وببنائهما للفاعل؛ على معنى يُطعِم تارة، ويمنع أخرى، كقوله: { { يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ } [البَقَرَة:245]، وجملة { إن عصيتُ }: معترضة بين الفعل والمفعول، والجواب: محذوف دل عليه ما قبله، أي: إن عصيتُ فإني أخاف عذاب يوم عظيم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { قل } لهم يا محمد: { أغير الله أتخذ وليًّا } أي: معبودًا أُواليه بالعبادة والمحبة، وأُشركه مع الله الذي أبدع السماوات والإرض، { وهو } الغني عما سواه، الصَّمَداني، { يُطعِمُ } ولا يحتاج إلى من يُطعمه، فهو يَرزُق ولا يُرزق، وتخصيص الطعام؛ لشدة الحاجة إليه { قُل } لهم: { إني أُمرتُ أن أكون أول من أسلم }، وأنقاد بكُلّيتي إلى هذا الإله الحقيقي، العني بالإنطلاق، وأرفضُ كل ما سواه، ممن عمّه الفقرُ ابتداءً ودوامًا. فكان عليه الصلاة والسلام هو أولَ سابق إلى الدين. ثم قيل له: { ولا تكونن من المشركين }؛ تنفيرًا لغيره من الشرك، وإلاّ فهو مبرَّأ منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
{ قل إني أخاف إن عصيت ربي } بالشرك وغيره { عذاب يوم عظيم }، وهذه مبالغة أخرى في قطع أطماعهم، وتعريض لهم بأنهم عصاة، مستوجبون للعذاب، { من يُصرف عنه } ذلك العذاب، { يومئدٍ } أي: يوم القيامة، { فقد رحمه } أي: نجاه، وأنعم عليه، { وذلك الفوز المبين } أي: وذلك الصرف أو الرحمة هو الفلاح المبين.
ثم ذكر حجة أخرى على استحقاقه للعبادة والولاية، فقال: { وإن يمسسك الله بضرّ } كمرض أو فقر، { فلا كاشف له إلا هو }؛ إذ لا يقدر على صرفه غيره، { وإن يمسسك بخير }؛ بنعمة، كصحة وغنى ومعرفة وعلم، { فهو على كل شيء قدير }، فهو قادر على حفظه وإدامته، ولا يقدر أحد على دفعه، كقوله تعالى:
{ { فَلآ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } [يُونس:107]، { وهو القاهر } لجميع خلقه؛ كلهم في قبضته، { فوق عباده } بهذه القهرية والغلبة والقدرة، { وهو الحكيم } في صنعه وتدبيره، { الخبير } بخفايا أمور عباده، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم الباطنة والظاهرة.
الإشارة: في الآية حَضٌّ على محبة الحق، وولايته على الدوام، ورفض كل ما سواه ممن عمَّه الفقر من الأنام، وفيها أيضًا: حثّ على المسابقة إلى الخيرات، والمبادرة إلى الطاعات، اقتداء بسيد أهل الأرض والسماوات، فكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ أول من عبد الله، وأول من توجه إلى مولاه، قال تعالى:
{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعابِِِدِينَ } [الزّخرُف:81]، فلو جاز أن يتخذ ولدًا، لكنت أنا أولى به، لأني أنا أول من عبده.
قال الورتجبي: { قل إني أُمرت أن أكون أول من أسلم } أي: أمرني حين كنت جوهر فطرة الكون ـ حيث لم يكن غيري في الحضرة ـ أن أكول أول الخلق في المحبة والعشق والشوق، وأول الخلق له منقادًا بنعت محبتي له، راضيًا بربوبيته، غير منازع لأمر مشيئته. وقال بعضهم: أكون أول من انقاد للحق إذا ظهر. هـ.
ولما قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد: لقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرِنا مَن شهد لك؟ أنزل الله تعالى: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ }.