التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
١٠
وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ
١١
-الممتحنة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { إذا جاءكم المؤمناتُ } إنما حُذفت تاء التأنيث للفصل بالمفعول، ورُدّ بأنّ الحذف مع الفصل بغير "إلاّ" مرجوح، والصواب: أنه على حذف الموصوف، أي: النساء المؤمنات، وهو اسم جمع، يجوز في الأمران، كقوله تعالى: { { وَقَالَ نِسْوَةٌ... } [يوسف:30].
يقول الحق جلّ جلاله: { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ } أي: مُشْرِفات على الإيمان ونَطَقْن بالشهادة، وإنما ظهر بعد الامتحان، { مُهاجراتٍ } من بين الكفار، { فامْتَحِنُوهن }؛ فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن للسانهن. كان صلى الله عليه وسلم يستحلفهن: ما خرجن من بُغض زوْج، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماسَ دُنيا، ولا عشقًا لرجل منا بل حبًّا لله ورسوله. وقد كان صلى الله عليه وسلم صالح أهلَ مكة على أنَّ مَنْ أسلم منهم يَرُده إليهم، فجاءت " سُبيْعَةُ بنت الحارث" مُسْلِمةً بعد الفراغ من الكتاب، فقال زوجها: اردد عليّ امرأتي، فنزلت، فاستحلفها صلى الله عليه وسلم بما تقدّم، فحلفت، فلم يردها عليه، وأعطى مهرها زوجَها، فتزوجها عمرُ، فكان صلى الله عليه وسلم يَرُد مَن جاء من الرجال، ولا يَرُد النساء. وعن ابن عباس: امتحانها: أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله.
{ اللهُ أعلم بإِيمانهن }، لأنه المُطّلع على قلوبهن. وفيه إشارة إلى التخفيف في الامتحان، وأنه ليس المطلوب غايته لتصلوا إلى العلم، بل ما يحصل به الظن القوي، وأما العلم فخاص بالله تعالى. { فإِن عَلِمْتُموهن مؤمناتٍ }، العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظن القوي، بظهور الأمارات. وتسمية الظن علمًا يُؤذن بأنَّ الظن الغالب، وما يفضي إليه القياس، جارٍ مجرى العلم، وصاحبه غير داخل في قوله:
{ وَلآ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ } [الإسراء:36]. قاله النسفي. { فلا تَرْجِعُوهنَّ إِلى الكفار } أي: إلى أزواجهن الكفرة، { لا هُنَّ حِلٌّ لهم, ولا هم يَحِلُّونَ لهن }، تعليل للنهي, أي: حيث خرجت مسلمة حَرُمت على المشرك. والتكرير إما لتأكيد الحرمة، أو الأول: لبيان زوال النكاح الأول، والثاني: لبيان امتناع النكاح الجديد، ما دام مشركاً، فإنْ أسلم في عِدتها كان أولى بها.
{ وآتوهم ما أنفقوا } أي: أعطوا أزواجَهن مثلَ ما دفعوا من المهور، { ولا جُناحَ عليكم أن تَنكحوهن }، فإنَّ إسلامهن حالَ بينهن وبين أزواجهن الكفار، { إِذا آتيتموهن أُجورهنَّ }؛ مهورهن؛ لأنّ المهر أجر البُضْع، وبه احتجّ أبو حنيفة على ألاّ عِدَّة على المهاجِرة. قال الكواشي: أباح تعالى نكاحهن وإن كان لهن أزواج في دار الحرب؛ لأنَّ الإسلام فرّق بينهن وبين أزواجهن بعد انقضاء العدة، فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي امرأته عند مالك والشافعي وأحمد، خلافًاً لأبي حنيفة في غير الحامل. هـ. { ولا تُمسكوا بِعِصَم الكوافرِ }، العصمة: ما يعتصم به من عقدٍ وسبب. والكوافر: جمع كافرة، وهي التي بقيت في دار الحرب, أو: لحقت بدار الحرب مرتدةً، أي: لا يكن بينكم وبين النساء الكوافر عصمة ولا عُلقة زوجية. قال ابن عباس رضي الله عنه: مَن كانت له امراة كافرة بمكة فلا يعتَدنَّ بها من نسائه؛ لأنَّ اختلاف الدارين قطع عصمتها منه. ولمّا نزلت الآية طلَّق عمرُ رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة، قُرَيْبَة بنت أبي أمية، وأم كلثوم الخزاعية.
{ واسألوا ما أنفقتم } من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار، أي: اطلبوه من الكفرة، { وَلْيَسْألوا ما أنفقوا } من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا. { ذالكم حُكْمُ الله } أي: جميع ما ذكر في هذا الآية. وقوله: { يحكم بينكم }: كلام مستأنف أو: حال من " حُكم الله " على حذف الضمير، أي: يحكمه الله، وجعل الحُكْم حاكماً على المبالغة وقال: " يحكم" مستقبلاً، مع أن الحكم ماضٍ باعتبار ظهور متعلقة, { واللهُ عليم حكيمٌ } يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة.
رُوي أنه لمّا نزلت الآية أدّى المؤمنون ما أُمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن من المشركين، وأبى المشركون أن يردُّوا شيئًا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، فنزل قوله تعالى: { وإن فاتكم } أي: سبقكم وانفلت منكم { شيءٌ من أزواجكم إِلى الكفار } أي: أحَدٌ من أزواجكم، وقرىء به. وإيقاع " شيء" موقعه للتحقير والتعميم، { فعاقبتم }، من المعاقبة، لا من العقوبة، أي: صرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم، وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجهم، شبّه ما حكم به على المسلمين والكافرين, من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأداء هؤلاء مهور نساء هؤلاء أخرى، بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره. { فآتوا الذين ذهبتْ أزواجُهم } منكم إلى الكفار { مثلَ ما أنفقوا }، تُعطوه من مهر المهاجرة التي تزوجتموها، ولا تؤتوا زوجها الكافر شيئًا، أي: ما كنتم تُعطونه للكفار من مهور أزواجهم المهاجرات أعطوه لمَن فاتت زوجته ولحقت بالكفار، فأزال الله دفعها إليهم، حين لم يرضوا بحُكمه، على أنّ هذا حكم قد نُسخ. قال ابن عطية: وهذه الآية كلها قد ارتفع حكمها. هـ. وذكر الكواشي الخلاف في النسخ وعدمه، وأنَّ رد المال مستمر، وذكر الخلاف في أنَّ الإنفاق كان على الوجوب أو الندب. هـ.
وقيل: معنى " فعاقبتم" من العقوبة، أي: فأصبتموهم في القتال، حتى غنمتم، فأعطوا المسلمين الذين ارتدت زوجاتهم، ولحقْن بدار الحرب مهورَ زوجاتهم من هذه الغنيمة. قال ابن عباس: خمس نسوة رجعن عن الإسلام، ولحقن بالمشركين، من نساء المهاجرين: أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت عند عياض بن شداد، وفاطمة بنت أبي أمية، أخت أم سلمة، وكانت تحت عمر بن الخطاب، وعزةُ بنت عبد العزى، كانت تحت هشام بن العاص، وأم كلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر أيضًا، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. هـ. { واتقوا اللهَ الذي أنتم به مؤمنون } أي: احذروا أن تتعدُّوا ما أُمرتم به؛ فإن الإيمان يقتضي فعل ما أمر به صاحبه.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص، وهم المشايخ العارفون؛ إذا جاءكم النفوس المؤمنه بطريقكم، وأرادوا الانخراط في سلككم، فامتحنونهن, هل هي صادقة الطلب، أو تريد حرفًا من حروف الهوى، فإن علمتم صدقهن، فلا تردجعوهن إلى أهل الغفلة، سيما أهل الإنكار؛ إذ لا يحل مخالطتهم في طريق الخصوص، وآتوهم من العلوم والمعارف عِوض ما أنفقوا من أنفسهم وأموالهم، ولاجناح عليكم أن تعقدوا عليهم عقدة الإرادة، التي هي كعقدة النكاح إذا آتيتموهن أجورهن، وهو أن تبذلوا لهم ما عندكم من السر، قدر ما يطيقون، ومن نقض العهد ورجع عن الإرادة فلا تُمسكوا بعصمته، وأطلقوه مع نفسه، فإن سألكم شيئًا مما كان بذل فسلوه عوض ما بذلتم له من العلم، وإن رجع أحد منكم إلى أهل الإنكار، ثم جاء أحد منهم إليكم فآتوه من العلم ما آتيتم مَن فرّ منكم، واتقوا الله الذي توجهتم إليه، فلا تُعطوا السر مَن لا يستحقه، ولا تمنعوه من مستحقه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
ثم ذكر بيعمة النساء، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ }.