التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
١٠
تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
١١
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٢
وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ
١٤
-الصف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { يا أيها الذين آمنوا هل أَدُلُّكُمْ على تجارةٍ تُنجِيكم من عذابٍ أليم }، وكأنهم قالوا: وما هذه التجارة، أو: ماذا نصنع؟ فقال: { تؤمنون بالله ورسوله وتُجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفُسِكم }، وهو خبر بمعنى الأمر، أي: وجاهِدوا، وجيء به بصيغة الخبر للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنه قد وقع، فأخبر بوقوعه، وقرىء "تؤمنوا" و "تجاهدوا" على إضمار لام الأمر. { ذالكم خير لكم }، الإشارة إلى الإيمان والجهاد بقِسْميه، أي: هو خير لكم من أموالكم وأنفسكم { إن كنتم تعلمون } أنه خير لكم، وقد قلتم: لو نعلم أيّ الأعمال أحب إلى الله لسارعنا، فهذا هو أحب الأعمال إلى الله، أو: إن كنتم من أهل العلم؛ فإنَّ الجهلة لا يعتد بأفعالهم.
{ يَغفر لكم ذنوبكم }: جواب للأمر المدلول بلفظ الخبر، على قول، أو شرط مقدّر، أي: إن تُؤمنوا وتُجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم { ويُدْخِلْكم جناتٍ تجري مِن تحتها الأنهارُ ومساكنَ طيبةً } ولا تطيب إلاّ بشهود الحبيب { في جناتِ عَدْن } أي: إقامة لا انتقال عنها. وجنة عدن هي مدينة الجنة ووسطها، يسكنها الصالحون الأبرار من العلماء والشهداء، وفوقها الفردوس، هي مسكن الأنبياء والصدِّيقين من المقربين، هذا هو المشهور، كما في الصحيح، { ذلك الفوزُ العظيمُ } أي: ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة الموصوفة بما ذكر من الأوصاف الجليلة هو الفوز الذي لا فوز وراءه.
{ وأُخرى } أي: ولكم إلى هذه النعمة العظيمة نعمةٌُ أخرى عاجلة { تُحبونها } وترغبون فيها، وفيه شيء من التوبيخ على محبة العاجل. ثم فسَّرها بقوله: { نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ } أي: عاجِل، وهو فتح مكة، والنصر على قريش، أو فتح فارس والروم، أو: هل أَدُلكم على تجارةٍ تُنجيكم، وعلى تجارةٍ تُحبونها، وهي نصر وفتح قريب، { وبَشِّر المؤمنين }: عطف على "تؤمنوا" لأنه في معنى الأمر, كأنه قيل لهم: آمنوا وجاهِدوا يُثبكم الله وينصركم, وبشر أيها الرسول بذلك المؤمنين.
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارَ الله } أي: أنصار دينه { كما قال عيسى ابنُ مريمَ للحواريين مَنْ أنصاري إِلى الله }؟ أي: مَن يكون مِن جندي ومختصاً بي، متوجهاً إلى الله. ظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى: { مَن أنصاري إلى الله } ولكنه محمول على المعنى، أي: كونوا أنصارَ الله، كما كان الحواريون أنصارَ عيسى، حينما قال لهم: مَن أنصاري إلى الله؟ { قال الحواريون نحن أنصارُ الله } أي: نحن الذين ينصرون دينه، والحواريون: أصفياؤه، وهم أول مَن آمن به من بني إسرائيل، قاله ابن عباس، وقيل: كانوا اثني عشر رجلاً. وحواري الرجل: صفوته وخاصته, من الحَور، وهو البياض الخالص، وقيل: كانوا قصّارين يُحوِّرون الثياب، أي: يُبيّضونها، وقيل: إنما سُمُّوا حواريين لأنهم كانوا يُطهرون النفوس بإقامتهم الدين والعلم، ولمَّا كفرت اليهود بعيسى عليه السلام، وهَمُّوا بقتله، فرَّ مع الحواريين إلى النصارى بقرية يُقال لها: نصرى، فنصوره، فقاتل اليهودَ بهم مع الحواريين، وهذا معنى قوله تعالى: { فآمنت طائفةٌ من بني إسرائيل وكفرت طائفةٌ } به، فقاتلوهم { فإيَّدنا الذين آمنوا } بعيسى عليه السلام { على عدوهم } أي: قوّيناهم { فأصبحوا ظاهِرين }؛ غالبين عليهم.
الإشارة: هل أّدلُكم على تجارةٍ، وهي سلوك طريق التربية، على أيدي الرجال، تُنجيكم من عذاب أليم، وهو غم الحجاب على الدوام؛ تؤمنون بالله ورسوله أولاً، وتجاهدون هواكم وسائرَ العلائق بأموالكم وأنفسكم ثانياً, فالأموال تدفعونها لمن يدلكم على ربكم، والأنفس تُقدمونها لمَن يُربيكم، يَتحكم فيها بما يشاء { في سبيل الله } في الطريق الموصلة إلى حضرته، { ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون } أي: إن كان لكم علم وعقل، فهذا خير لكم، يغفر لكم ذنوبكم، أي: يُغطي مساوئكم، فيُغطي وصفكم بصوفه، ونعتكم بنعته، فيُوصلكم بما منه إليكم، لا بما منكم إليه، ويُدخلكم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، ومساكن طيبة, هي السكنى والأطمئنان في مقامات اليقين، مع شهود رب العالمين، أو روح الرضا وريحان التسليم، أو الإقامة في حضرة القدس، مع التنزُّه في المقامات، في جنات عدن، وهي الرسوخ والإقامة في جنات المعارف ذلك الفوز العظيم.
{ وأُخرى تحبونها } عاجلة، { نصر من الله }: عِزٌّ دائم، { وفتح قريب } هو دخول بلاد المعاني. وقال القشيري: الفتح القريب: الرؤية والزلفة، ويقال: الشهود، ويقال: الوجود أبد الأبد. هـ. { وبَشِّر } بأنهم ظافرون بهذا، إن فعلوا ما أُمروا به. وقال الورتجبي: نصر الله: تأييده الأزلي، الذي سبق للعارفين والموحِّدين، والفتح القريب: كشف نقابه وفتح أبواب وِصاله، بنصره ظهروا على نفوسهم، فقهروها, وبفتحه أبواب الغيب شاهَدوا كل مغيب مستور من أحكام الربوبية وأنوار الألوهية. هـ. وباقي الآية يُرغب في القيام في نصر الدين، وإرشاد العباد إلى الله، حتى تظهر أنوار الدين، وتخمد ظلمة المعاصي والبِدَع من أقطار البلاد، وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم.