التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
٥
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ
٦
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى ٱلإِسْلاَمِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٧
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ
٨
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ
٩
-الصف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين عن الجهاد قول موسى لبنى إسرائيل، حين ندبهم إلى قتل الجبابرة، بقوله: { { يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ } [المائدة:21] الآية، فلم يمتثلوا أمره، وعصوه أشد عِصيان، حيث قالوا: { يَٰمُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ... } [المائدة:22] الآية، إلى أن قالوا: { { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ... } [المائدة:24] الآية. وآذوه عليه السلام كل الإذاية فقال: { يا قوم لِمَ تُؤذونني وقد تعلمون أني رسولُ الله إِليكم }، فالجملة: حال، والحال أنكم تعلمون عِلماً قطعياً، مستمراً، بمشاهدة ما ترون من المعجزات الباهرة، أني رسولُ الله إليكم، لأُرشدكم إلى خير الدنيا والأخرة، ومِن قضية عِلْمكم أن تُبالغوا في تعظيمي، وتُسارعوا إلى طاعتي، { فلما زاغوا } أي: أصرُّوا على الزيغ عن الحق الذي جاءهم به، واستمروا عليه { أزاغ اللهُ قلوبَهم }؛ صرفها عن قبول الحق، والميل إلى الصواب، لصرف اختيارهم نحو الغيّ والإضلال، { واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين } أي: لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق، المصرِّين على الغواية، هدايةً موصّلَة إلى الطاعة وحسن الأدب، والمراد بهم المذكورون خاصة، والإظهار في موضع الإضمار لذمِّهم بالفسق وتعليل عدم الهداية، أو جنس الفاسقين، وهم داخلون في حكمهم دخولاً أوليًّا، وأَيًّا ما كان فوصفهم بالفسق نظر إلى ما في قوله تعالى: { فٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } [المائدة:25]، هذا الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم، ويرتضيه الذوق السليم. انظر أبا السعود.
{ وإِذ قال عيسى ابنُ مريم يا بني إِسرائيلَ }، لم يقل: يا قوم، كما قال موسى، لأنه لا نسب له فيهم من جهة الأب, حتى يكونوا مِن قومه: { إِني رسولُ الله إِليكم }، كان رسولاً لهم ولمَن دخل معهم، كالنصارى، { مُصَدِّقًا لما بين يديَّ مِن التوراة }، وهو من إحدى الدواعي إلى تصديقهم إياه، { ومُبشِّرًا برسولٍ يأتي من بعدي }، وهو من الدواعي أيضاً إلى تصديقه؛ لأنَّ بشارته به عليه السلام واقعة في التوراة، أي: أُرسلت إليكم في حال تصديقي للتوراة، وفي حال بشارتي برسول يأتي من بعدي، يعني: أنَّ ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه، مَن تقدّم ومَن تأخّر، وهذا الرسول { اسمُه أحمدُ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
قال القشيري: كل نبيًّ بشّر قومَه بنبيِّنا صلى الله وعليه وسلم، وأفرد اللهُ عيسى بالذِّكْرِ في هذا الموضع لأنه أخِرُ نبيِّ قبل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، فبيّن أنّ البشارة به عَمَّتْ جميعَ الأنبياء واحداً بعد واحدٍ حتى انتهى إلى عيسى عليه السلام. هـ. قال الكواشي: و"أحمد" بناء مبالغة، والمعنى: أنَّ الأنبياء كلهم حمّادون الله، وهو أكثر حمداً مِن غيره، وكلهم محمودون لِما فيهم جميل الأخلاق، وهو أكثرهم خِلالاً حميدة. ثم قال: وعن كعب: قال الحواريون: يا روح الله؛ هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم، أمة أحمد، حكماء، علماء، أبراراً، أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى باليسير من العمل. هـ. وقال السهيلي: في اسمه " أحمد ومحمد" إشارة إلى كونه خاتماً؛ لأنَّ الحمد مشروع عند انقضاء الأمور واختتامها وتمامها.هـ.
{ فلما جاءَهم } أيك عيسى، أو محمد ـ عليهما السلام ـ { بالبيناتِ }؛ المعجزات الظاهرة، { قالوا هذا سِحرٌ مبين }؛ ظاهر سحريته، وقرأ الإخوان " ساحر " وصف للرسول.
{ ومَن أظلمُ ممن افترى على الله الكذبَ وهو يُدْعَى إِلى الإِسلام } أي: أيّ الناس أشد ظلماً ممن يُدْعى إلى سعادة الدارين، فيضع موضع الإجابة الافتراءَ على الله عزّ وجل، بقوله لكلامه الذي دعا عباده إلى الحق: هذا سحر؟ أي: هو أظلم من كل ظالم، { واللهُ لا يهدي القومَ الظالمين } أي: لا يُرشدهم إلى ما فيه صلاحهم؛ لعدم توجههم إليه. { يُريدون لِيُطفئوا نورَ الله بإفواههم } أي: دينه أو: كتابه، أو حجته النيِّرة، واللام مزيدة، أي: يُريدون إطفاءَ نور الله، أو للتعليل والمفعول محذوف، أي: يريدون الكذب ليُطفئوا نورَ الله، وهو تهكُّم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام، بقولهم في القرآن: هذا سحر، مُثِّلت حالهم بحال مَن ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، { والله مُتِم نُوره } أي: مبلغه إلى غاية يُنشره في الآفاق، ويُعليه على الأديان { ولو كَرِه الكافرون }.
{ هو الذي أرسل رسولَه بالهُدى }؛ بالقرآن، أو بالمعجزات، أو بالهداية { ودين الحق }؛ الملة الحنيفية { ليُظهره على الدين كلِّه } أي: ليعليه على جميع الأديان المخالفة له, ولقد أنجز الله ـ عزّ وعلا ـ وعده، حيث جعله بحيث لم يبقَ دين من الأديان إلاَّ وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام. وعن مجاهد: إذا نزل عيسى لم يكن إلا دين الإسلام. هـ. { ولو كَرِه المشركون } ذلك، قال الطيبي: قوله تعالى: { ومَن أظلم... } الخ، حذَّر تعالى مما لقي قوم موسى من إزاغة القلوب، والحرمان من التوفيق، بسبب الأذى، وما ارتكب قوم عيسى بعد مجيئه بالبينات من تكذيبه وقولهم فيه: "هذا سحر مبين"، ألاَ ترى كيف جمع الكل في قوله: { ومن أظلم... } الآية، قال: وقضية الدعوة إلى الإسلام توقير مَن يدعو إليه، وإجابة دعوته. ثم قال: وأمّا قوله: { والله لا يهدي القوم الظالمين } هو تذييل لقوله: { ومَن أظلم ممن أفترى... } الآية؛ لأنّ الظلم هو: وضع الشيء في غير محله، وأيُّ ظلم أعظم من جعل إجابة الداعي إلى الله مفترياً؟! والكفر: التغطية ومحاولة إطفاء النور إخفاء وتغطية، ودين الحق هو التوحيد، والشركُ يقابله، ولذلك قال: { ولو كره المشركون }. هـ.
الإشارة: سوء الأدب مع الأكابر، وإذايتهم، سبب كل طرد وبُعد، وسبب كلّ ذُل وهوان، وحسن الأدب معهم وتعظيمهم، سبب كُلِّ تقريب واصطفاء، وسبب كُلِّ عز ونصر، ولذلك قال الصوفية: "اجعل عَمَلك مِلحًا، وأدبك دقيقًا". ألآ ترى بنى إسرائيل حين أساؤوا الأدب مع نبي الله موسى بقولهم:
{ { فَـٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلآ... } [المائدة:24] الخ كيف أذلَّهم الله وأخزاهم إلى يوم القيامة، وانظر أصحابَ نبينا صلى الله عليه وسلم حيث تأدّبوا غاية الأدب، وقالوا يوم بدر: " لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك، ولكن اذهب أنت وربك ونحن معك، والله لو خُضت بنا ضحضاح البحر لخضناه معك" كيف أعزَّهم الله ونصرهم على سائر الأديان، ببركة حُسن أدبهم ـ رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم حضَّ على الجهاد المقصود بالذات، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ }.