التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٩
فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٠
وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١
-الجمعة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { يا أيها الذين آمنوا إِذا نودي للصلاة من يوم الجمعة }، والإمام على المنبر، و"مِن" بيان لـ"إذا" أو تفسير لها، وقيل: "مِن" بمعنى "في" كقوله: { مَاذَا خَلَقُواْ مِن ألأَرْضِ } [فاطر:40 و الأحقاف:4] أي: في الأرض. وإنما سُمي جُمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة، وقيل: أول مَن سمّاها جمعة: كعب بن لؤي، وكان يُسمى العروبة، وقيل: إنَّ الأنصار قالوا قبل الهجرة: لليهود يومٌ يجتمعون فيه في كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلُموا نجعل يوماً نجتمع فيه، فنذكر الله نُصلّي، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم الجمعة، فاجتعوا إلى سعد بن زُرارة، فصلَّى بهم ركعتين، وذكَّرهم، فسموه يومَ الجمعة، لاجتماعهم فيه، فأنزل الله آية الجمعة ـ أي: بعد ذلك ـ تقريراً لفعلهم، فهي أول جمعة كانت في الإسلام. وأما أول جمعة جمعها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فهي لمَا قَدِم المدينةَ مهاجراً، نزل قباء، على بني عَمرو بن عوف، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء الأربعاء والخميس، وأسّس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامداً إلى المدينة، فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف، في بطن وادٍ لهم، وقد بنوا هناك مسجداً، فخطب، وصلّى الجمعة فيه. انظر الثعلبي.
ويوم الجمعة سيد الأيام، وفي الحديث:
" مَن مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد، ووُقي فتنة القبر " .
فإذا نُودي للصلاة { فاسْعَوا إِلى ذكر الله } أي: امشوا واحضروا الخطبة والصلاة { وذَرُوا البيع } أي: اتركوا المعاملة كلها، وإنما خص البيع؛ لأنّ يوم الجمعة كان سوقًا يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال، فقيل لهم: بادِروا إلى تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، { واسْعَوا إِلى ذكر الله } الذي لا شيء أنفع منه، { ذالكم } أي: السعي إلى ذكر الله { خيرٌ لكم } من البيع والشراء { إِن كنتم تعلمون } الخير والشر الحقيقيين، أو: إن كنتم من أهل العلم.
{ فإِذا قُضِيَتِ الصلاةُ } أي: أُدّيت وفرغ منها { فانتشِرُوا في الأرض }، أمْرُ إباحة، أي: اخرجوا لإقامة مصالحكم، { وابتغوا من فضل الله }؛ الرزق، قال ابن عباس: "إنما هي عيادة المريض، وحضور الجنائز، وزيارة أخ في الله" ومثله في الحديث، وعن الحسن: طلب العلم، وقيل: صلاة التطوُّع. { واذكروا اللهَ كثيراً }، أي: ذكراً كثيراً, أو زمناً كثيراً، ولا تخصُّوا ذكره بالصلاة، { لعلكم تُفلحون } أي: كي تفوزوا بخير الدارين.
{ وإِذا رأَوْا تجارةً أو لهواً انفَضُّوا إِليها }،
" رُوي أنّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد، فقَدِم دِحْيَة بن خَليفةَ، بتجارة من زيت الشام، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقاموا إليها؛ خشية أن يُسبقوا إليه، فما بقي معه عليه السلام إلاّ ثمانية، أو اثنا عشر؛ العشرة المبشَّرون بالجنة، وبلال وابن مسعود، وقيل: أربعون، وهذا مبنى الخلاف في عدد الجماعة التي تنعقد بهم وتجب عليهم، فقال مالك: تنعقد باثني عشر غير الإمام، وتجب على قرية يُمكنهم الإقامة والدفع عن أنفسهم في الغالب، وقال الشافعي: أربعون رجلاً وقال أبو حنيفة: لا بد من المصر الجامع، والسلطان القاهر، وتصح الصلاة عنده بأربعة.
ولمّا انفضُّوا قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لو قاموا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً "
. وفي مراسيل أبي داود: إنّ الخطبة كانت بعد الصلاة، فتأو‍ّلوا ـ رضي الله عنهم ـ أنهم قد قضوا ما عليهم، فحولت الخطبة بعد ذلك قبل الصلاة. هـ.
وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، وهو المراد باللهو. وتخصيص التجارة برجْع الضمير إليها؛ لأنها المقصودة، أو لأن الانفضاض إذا كان للتجارة مع الحاجة إليها مذموماً، فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو، فهو مذموم في نفسه، وقيل: التقدير: إذا رأوا تجارة انفضُّوا إليها، أو لهواً انفضُّوا إليه، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه. وقال أبو حيان: وإنما قال: "إليها"، ولم يقل: إليهما، لأن العطف بـ"أو" لا يثنى فيه الضمير، بل يفرد، وقال الطيبي: الضمير راجع إلى اللهو، باعتبار المعنى، والسر فيه: أنَّ التجارة إذا شغلت المكلّف عن الذكر عُدت لهواً، وتعد فضلاً إن لم تشغله، كما ذكر قبل ذلك، فراجعه.
{ وتَركُوك قائمًا } على المنبر، وفيه دليل على طلب القيام في الخطبة إلاَّ لعذر. { قل ما عند الله } من الثواب { خير من اللهو ومن التجارة } فإنَّ في ذلك نفع محقق دائم، بخلاف ما فيهما من النفع المتوهم. { واللهُ خيرُ الرازقين } فإليه اسعوا،ومنه اطلبوا الرزق، أي: لا يفوتهم رزق الله بترك البيع، فهو خير الرازقين.
الإشارة: إذا نُودي لصلاة القلوب في مقام الجمع، من ناحية الداعي إليها، وهم المشايخ العارفون، فاسعوا إلى ذكر الله، ودُوموا عليه باللسان والقلب، ثم بالقلب فقط، ثم بالروح، ثم بالسر، فإنَّ الذكر منشور الولاية، ولا بد منه في البداية والنهاية، قال الورتجبي بعد كلام: الساعي إلى الذكر مقام المريدين، والمحقق في المعرفة غلب عليه ذكر الله إياه بنعت تجلِّي نفسه لقلبه. هـ.
{ وذّرُوا البيع } أي: اتركوا كلَّ ما يشغل عن الله، فلا تتجلى الحقائق إلاّ بعد ترك العلائق، ذلكم، أي: ترك كل شاغل، خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون، أي: إن كنتم من أهل العلم بالله فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض... الخ، أي: إذا حصل لكم البقاء بعد الفناء؛ فانتشِروا في أرض العبودية، واتسعوا في ميادين البشرية، بالاستمتاع بالشهوات المباحة بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، وابتغوا من فضل الله، بالتجارات الرابحة، وهي إرشاد العباد إلى الله، { واذكروا الله كثيراً } أي: في كل شيء وعند كل شيء، برؤية الحق في كل شيء، وإليه تُشير وصيته صلى الله عليه وسلم لمُعاذ بقوله:
" واذكر الله عند كل حَجر وشجر " .
وقوله تعالى: { وإِذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضُّوا إِليها }، قال القشيري: يشير إلى السالكين المحرومين من الجذبة ـ وهو السالك الأبتر ـ إذا رأوا تجارة، أي: طاعة تُوجب ثواب الآخرة، يقومون إليها، ويَثبون عليها، نظراً إلى ثواب الآخرة، كما قال عليه السلام: "لا تكونوا كالأجير السوء، إن أُعطي عمل، وإن لم يُعطَ لم يعمل" ، أو لهواً أطرب النفس برؤية الطاعة واستِلْذَاذها بنظر الخلق إليها، انفضُّوا إليها وتركوك ـ أيها السالك الحقيقي ـ قائماً بعبودية الحق، ومشاهدة قيوميته، قل: ما عند الله من المواهب العالية، والعطايا السنية، خيرٌ من لهو النفس برؤية الغير، ومن التجارات بثواب الآخرة، لقوله تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلآ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أَحَداً } [الكهف:110] أو: ما عند الله نَقْداً للعارفين من واردات القلوب، وبواده الحقيقية، خير مما يؤمل من الدنيا والآخرة للغافلين، والله خير الرازقين، لإعطائه رزق النفس، وهو الطاعة على المنهاج والشرع، ورزق القلب، وهو الأعمال القلبية، كالزهد والورع والرضا والتسليم والمراقبة، والبسط والقبض، والأُنس والهيبة، ورزق الروح بالتجليات والمشاهدات، والمعاينات والتنزُّلات، ورزق السر برفع رؤية الغير والغيرية، ورزق الخفاء بالفناء في الله والبقاء به. هـ. قال الورتجبي: فيه تأديب المريدين حين اشتغلوا عن صحبة المشايخ، بخلواتهم وعباداتهم، لطلب الكرامة, ولم يعلموا أنَّ ما يجدون في خلواتهم بالإضافة إلى ما يجدون في صحبة مشايخهم لَهْوٌ. هـ. وهو حق. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد، عين عيان التحقيق, وعلى آله وصحبه وسلّم.