التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
٤
-المنافقون

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحقّ جلّ جلاله: { وإِذا رأيتهم تُعْجِبُكَ أجسامُهم } لضخامتها، ويروقك منظرُهم؛ لصباحة وجوههم، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو: لكل سامع، { وإِن يقولوا تسمعْ لِقَولهم } لفصاحتهم، وذلاقة ألسنتهم، وحلاوة كلامهم، وكان ابن أُبي رجلاً جسيماً صبيحاً، وقوم من المنافقين في مثل صفته، فكانوا يحضرون مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستندون فيه، ولهم جهارة المناظرة، وفصاحة الألسن، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ومَن معه يُعجبون بهم، ويسمعون إلى كلامهم. { كأنهم خُشُب مُسَنَّدةٌ } أي: هم كخشب مُسَنَّدة، شُبِّهوا في جلوسهم في مجلس الرسول صلى الله عليهم وسلم مستندين فيها بخُشب منظومة، مسندة إلى الحائط، في كونهم أشباحاً خاليه من العلم والخير؛ لأنّ الخشب إذا انتُفع بها كانت في سَقفٍ، أو جدارٍ، أو غير ذلك من مظان الانتفاع، وما دام متروكاً غير منتفع به، أُسند إلى الحائط فشُبِّهوا به في عدم الانتفاع. أو: لأنهم أشباح بلا أرواح، وأجرام بلا أحلام. و"خُشُب" بضمتين، جمع خَشبة، كَثمرة وثُمُر، ويسكن، كبَدنة وبُدن.
{ يحسبون كلَّ صيحةٍ } واقعة { عليهم }، فـ"كل": مفعول أول، و"عليهم": مفعول ثان، أي: يظنون كلَّ صيحة واقعة عليهم لاستقرار الرعب في قلوبهم، فإذا نادى منادٍ في العسكر، أو انفلتت دابة، أو نُشِدت ضالّة؛ ظنوه إيقاعاً بهم. { هم العدوُّ } أي: الكاملون في العداوة، الراسخون فيها، فإنّ أعدى الأعادي المكاشِر، الذي يُكاشر وتحت ضلوعه الداء. فالألف واللام للجنس، أو: للعهد، أي: العدو الذي يشهد لك، ويعتقد خلاف ما يشهد، { فاحْذرهم } ولا تغتر بحلاوة منطقهم، { قاتلهم اللهُ }، دعاء عليهم، أو: تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم، { أنى يُؤفكون } أي: كيف يعدلون عن الحق بعد وضوحه، تعجُّباً من جهلهم وضلالتهم.
الإشارة: لا عبرة بالأجسام العريضة، ولا بالألسن الفصيحة، إنما العبرة بالقلوب المطهرة، والسرائر المنورة،
" إن الله لا ينظر إلى صوركم..." الحديث، و" "رُبَّ أشعثَ أغبر، مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسمَ على الله لأبَرَّه في قسمه " . قال القشيري: قوله تعالى: { وإذا رأيتهم.. } الخ، أي: هم أشباح وقوالب، ليس وراءهم ألبابُ وحقائق، والجوزُ الفارغ يؤنق ظاهره، ولكن للعب الصبيان. هـ. وقال الشاعر:

وما الحسنُ في وجه الفتى شرفاً لهإذا لم يكن في فعله والخلائق

وقالت العامة: لا يتكلم إلاَّ الجوز الفارغ، ذمًّا لشقشقة اللسان، وفي الحديث أيضاً ذمهم والتحذير منهم. أما قوله صلى الله عليه وسلم: " التمسوا حوائجكم عن حِسَان الوُجُوه " فإنما المراد: ما يظهر على الوجه من البهجة والنور، والخفة والملاحة، مما خامر الباطن من بشاشة الإيمان ونور المعرفة. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى في ذم المنافقين وافتضاحهم: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ }.