التفاسير

< >
عرض

وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً
٤
ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
٥
-الطلاق

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { واللائي يَئِسْنَ من المحيض من نسائكم } لكبرهن، وقدّروه بستين، أو: بخمس وخمسين. رُوي أنَّ ناساً قالوا: قد عرفنا عِدة الأقراء، فما عدة التي لم تحض؟ فنزلت. وقوله: { إِن ارتبتمْ } أي: إن أشكل عليكم حكمهنّ كيف يعتددن، { فعِدَّتهُنَّ ثلاثةُ أشهرٍ } أو: إن ارتبتم في حيضها، هل انقطع أو لم ينقطع، فعِدَّتها بالأشهر، وهي المرتابة التي غابت حيضتُها، وهي في سن مَن يحيض، واختلف فيها، فقيل: ثلاثة أشهر على ظاهر الآية، وقيل: تسعة، وتستبرىء بثلاثة، وهو المشهور في مذهب مالك, وقدوته في ذلك عُمر بن الخطاب، لأنّ مذهبه عُمري، وقيل: تعتد بالأقراء، ولو بلغت ثلاثين سنة، حتى تبلغ سن مَن لا يحيض، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. { واللائي لم يَحِضْنَ } من صغر، فعدتهنّ ثلاثة أشهر، حذف لدلالة ما قبله، { وأُولات الأحمالِ أجَلُهُنَّ } أي: عِدّتهن { أن يضعن حَملَهن } سواء كن مطلقات، أو متوفًّى عنهن أزواجهن، عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وسائر العلماء. وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهما: إنما هذا في المطلقات الحوامل، وأما المتوقَّى عنهن فعدّتهنَ أقصى الأجلين، إما الوضع، أو انقضاء أربعة أشهر وعشر، وحُجة الجمهور: حديث سُبَيْعة، أنها لما مات زوجها، ووضعت، أَمَرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتزوُّج، وقد رُوي أن ابن عباس رجع إليه، ولو بلغ عليًّا لرجع، فهذه الآية مخصَّصة لِما في سورة البقرة من قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ... } [البقرة:234].
تنبيه: وَضْعُ الحمل إنما يُبرىء الرحم إذا كان من نكاح صحيح، وأمّا من الزنى فلا يُبرئ، باتفاقٍ، فمَن حملت مِن زنى وهي متزوجة فلا تحل للهارب الذي حملت منه إذا طُلّقت بوضع حملها منه، بل لا بد من ثلاثة قروء بعد الوضع، نَعَم مَن لا زوج لها من حُرةٍ أو أَمةٍ إذا حملت من زنى تمَّ استبراؤها بوضع حملها.
{ ومَن يتقِ اللهَ } في شأن أحكام العدة ومراعاة حقوقها { يجعل له من أمره يُسراً } أي: يُسهل عليه أمره. ويتحلّل عليه ما تعقّد ببركة التقوى، { ذلك } أي: ما علَّمكم من الأحكام { أمرُ الله أَنزله إِليكم } لتعملوا به. وإفراد الكاف مع أنّ المُشار إليهم جماعة؛ لأنها لتعيين الفرق بين البُعد والقرب، لا لتعيين خصوصية المخاطبين { ومَن يتق الله } بالمحافظة على أحكامه { يُكفِّر عنه سيئاتِه } فإنَّ الحسنات يُذهبن السيئات، { ويُعْظِمْ له أجراً } بالمضاعفة والتكثير.
الإشارة: والنفوس التي يئسن من المساوىء والميل إلى الدنيا، ثم شككتم في تحقق طهارتها، تنتظر ثلاثة أشهر، فإذا مضت هذه المدة ولم يظهر منها ميل، فالغالب طهارتها، وكذلك النفوس الزكية، الباقية على الفطرة, التي لم يظهر منها خَلل، تنتظر هذه المدة، فإن ظهرت سلامتها فلا مجاهدة عليها، والنفوس الحوامل بكثرة الأشغال عِدَّة تمام فتحها أن تضع كل ما يثقل عليها ويمنعها من السير، ولقد سمعتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول: إن شئتم أن أُقسم لكم؛ إنه لا يدخل أحد عالَم الملكوت وفي قلبه علقة. هـ. { ومَن يتق الله } أي: يعزم على البر والتقوى يجعل له تعالى من أمره يُسراً، يُسهّل عليه طريق السلوك، ويكفيه كلَّ ما يُثقله ويشغله عنه، إما بإزالة ذلك له، أو بغيبته عن شؤونه، ومَن يتق الله بالفعل يُكَفِّر عنه سيئاتِه، أي: يُغطّي عنه أوصافه الذميمة بأوصافه الحميدة، ويُعظم له أجراً بأن يفتح له باب مشاهدته. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكم السُكنى والنفقة، فقال: { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم }.