التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ
١٥
ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ
١٦
أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
١٧
وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ
١٨
-الملك

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { هو الذي جعل لكم الأرضَ ذلولا }؛ مذلّلة ليّنة يسهل عليكم سلوكها. وتقديم (لكم) على مفعول الجعل؛ للاهتمام والتشويق، { فامشُوا في مناكبها }؛ جوانبها، وهو تمثيل لفرط التذلُّل، فإنَّ منكب البعير أرقّ أعضائه وأصعبها على أن يطأها الراكب بقدميه، فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يتأتى المشي في مناكبها لم يبقَ منها شد لم يتذلّل، { وكُلوا من رزقه } أي: والتمسوا من رزق الله في سلوكها، أو إذا تعذّر العيش في أرضٍ فامشوا في مناكبها إلى أرض أخرى، كما قال الشاعر:

يا نفس مالكِ تهوي الإقامةَ فيأرض تعيش بين من ناواكِ بها
أما سمعتِ وعجز المرء منقصَةٌفي محكم الوحي: فامشوا في مناكبها

أو: كُلوا من رزق الله الخارج منها، { وإِليه النُشورُ } أي: الرجوع بالبعث، فتُسألون عن شكر هذه النعم.
ثم هدَّد مَن لم يشكر فقال: { أأمِنْتُم مَن في السماء } من ملكوته وأسرار ذاته، وعبّر بها؛ لأنها منزل قضاياه، وتدبيراته ووحيه، ومسكن ملائكته وأوامره ونواهيه، فكل ما يظهر في الأرض إنما يقضي به في السماء، وحينئذ يبرز، فكأنه قال: أأمِنتم خالق السموات؟ وقال اللجائي: كل شيء علا فهو سماء، وسماء البيت: سقفه، وليس المقصود في الآية سماء الدنيا؛ ولا غيرها من السبع الطباق، وإنما المعنى: أأمِنتم مَن في العلو، وهو علو الجلال، وليس كون الله في سماء الحوادث من صفات الكمال، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. هـ. وسيأتي في الإشارة تحقيقة عند أهل التوحيد. أي: أأمِنتم مَن في السماء أسرار ذاته { أن يخسف بكم الأرضَ } كما خسف بقارون بعد ما جَعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها، وتأكلون من رزقه فيها، بحيث كفرتم تلك النعمة، فقلبها لكم { فإِذا هي تمورُ }؛ تضطرب وتتحرّك.
{ أم أَمِنْتُم مَن في السماء أن يُرسل عليكم حاصباً }؛ حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، أو: ريحاً فيها حجارة. و "أن": بدل اشتمال في الموضعين. { فستعلمون } عن قريب { كيف نذيرٍ } أي: إنذاري عن مشاهدتكم للمنذَر به، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذٍ.
{ ولقد كذَّب الذين مِن قبلهم }؛ من قبل كفار مكة، من كفار الأمم السابقة، كقوم نوح وعاد وأضرابهم، والالتفات إلى الغيبة؛ لإبراز كمال الإعراض عنهم، { فكيف كان نكير }؛ إنكاري عليهم، بإنزال العذاب، أي: كان على غاية الهول والفظاعة، وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط، وفيه من المبالغة في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتشديد التهويل ما لا يخفى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: هو الذي جعل لكم أرض البشرية مذلّلة للعبودية، والقيام بآداب الربوبية، فامشوا في مناكبها؛ فسيحوا بقلوبكم في جوانبها، تفكُّراً واعتباراً لِما فيهم من عجائب الإتقان، وبدائع الحِكم، فقد جمعت أسرار الوجود بأسره، وكُلوا من رزقه مما اكتسبه القلب بالنظر والتفكُّر، من قوة الإيمان، وهو قوت القلوب، وشهود الحق فيها، وهو قوت الأرواح والأسرار، وإليه النُشور ببعث الأرواح من موت الغفلة والجهل، إلى حياة اليقظة والمعرفة، أأمِنتم مَن في السماء أن يخسف بكم الأرض، أي: إذا أسأتم معه الأدب.
واعلم أن ذات الحق ـ جلّ جلاله ـ عمّت الوجود، فليست محصورة في مكان ولا زمان، { فأينما تُولوا فَثَمّ وجه الله }، فأسرار ذاته ـ تعالى ـ سارية في كل شيء، قائمة بكل شيء، كما تقدّم، فهو موجود في كل شيء، لا يخلو منه شيء، أسرار المعاني قائمة بالأواني، وإنما خصّ الحق ـ تعالى ـ السماء بالذكر؛ لأنها مرتفعة معظّمة، فناسب ذكر العظيم فيها، وعلى هذا تُحمل الأحاديث والآيات الواردة على هذا المنوال. وليس هنا حلول ولا اتحاد؛ إذ ليس في الوجود إلاّ تجليات الحق ومظاهر ذاته وصفاته، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه، فما مثال الكون إلا كجبريل حين يتطوّر على صورة دحية، غير أنَّ رداء الكبرياء منشور على وجه ذاته وأسرار معانيه، وهو ما ظهر من حسن الكائنات، وما تلوّنت به الخمرة من أوصاف العبوية. ولا يفهم هذا إلاَّ أهل الذوق السليم. وبالله التوفيق.
ثم تممَ بيان المُلك الذي بيده؛ بإمساك الطير في جو الهواء، وبالنصر لمَن لاَذ به على الأعداء، وبإتيان الرزق من غيب السماء، فقال: { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ }.