التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ
٢
ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ
٣
ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
٤
وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ
٥
-الملك

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { تباركَ } أي: تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين فالبركة: السمو والزيادة، حسية أو عقلية، وكثرة الخير ودوامه، والمعنى الأول أنسب للمقام، باعتبار تعاليه عزّ وجل عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله، وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك؛ فإنَّ ما لا يصح نسبته إليه تعالى من الصيغ، كالتكثُّر ونحوه، إنما يُنسب إليه تعالى باعتبار غاياتها. وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه تعالى على مخلوقاته من فنون الخيرات، أي: تعالى بالذات عن كل ما سواه. { الذي بيده المُلك } أي: بيده التصرُّف التام والاستيلا ء على كل موجود، وهو مالك المُلك، يُؤتيه مَن يشاء، وينزعه عمن يشاء، واليد: مجاز عن القدرة التامة، والاستيلاء الكامل. { وهو على كل شيءٍ } من المقدورات، أو من الإنعام والانتقام { قديرٌ }؛ مبالغ في القدرة يتصرف فيه على حسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكم البالغة.
والجملة: معطوفة على الصلة، مقرِّرة لمضمونها، مفيدة لجريان أحكام مُلكه تعالى في جلائل الأمور ودقائقها، دالة على العموم والشمول في أنه متصرف في أحوال المُلك في إيجاد أعيان الأشياء؛ المتصرّف فيها وفي إيجاد عوارضها الذاتية. ولو اقتصر على قوله: { بيده الملك } لأوهم قصوره على تغيُّر أحوال المُلك فقط.
ثم أحال على ما هو مُشاهد من التصرُّف بقوله: { الذي خلق الموتَ والحياةَ } أي: موتكم وحياتكم أيها المكلّفون. ومعنى خلق الموت والحياة: إيجاد ما يصحح الإحساس وإعدامه. والموت عند أهل السنة: صفة وجودية مضادة للحياة، وأمّا ما رُوي عن ابن عباس: أنه تعالى خلق الموتَ في صورة كبش أملح، لا يمر بشيء ويجد ريحه إلاّ مات، وخلق الحياة في صورة فرس، لا يَمر والا يجد رائحتها شيء إلاّ حيى" فوارد على منهاج التمثيل والتصوير، ويجوز أن يكون حقيقة، إذ القدرة صالحة. وتقديم الموت لأنه أدعى لأحسن العمل، الذي هو حكمة خلق الموت والحياة، المشار إليه بقوله: { ليبلوكم أَيُّكم أحسنُ عملا } أي: خلق موتكم الذي يعمّ الأمير والأسير، والحياة التي لا تبقى لعليل ولا طبيب، ليُعاملكم معالمة مَن يختبركم أيكم أحسن عملاً؛ فيُجازيكم على مراتب متفاوتة، حسب طبقات علومكم وأعمالكم؛ فإنَّ العمل غير مختص بالجوارح، ولذلك فسَّره صلى الله عليه وسلم بقوله:
" أيكم أحسن عقلاً، وأردع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله" ، وفي رواية: " "أيكم أحسن عقلاً، وأشدكم له خوفاً، وأحسنكم في أمره ونهيه نظراً، وإن كانوا أقلّكم تطوُّعاً " وقال ابن عباس وغيره: أيكم أزهد في الدنيا.
قال القشيري: كيف تكونوا في الصبر في المحنة، والشكر عند المنّة. وقال النسفي: { أيكم أحسن عملاً }: أخلصه وأصوبه، فالخالص: أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السُنَّة, والمراد: أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل، وسلّط عليكم الموت، الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، فما وراءه إلاّ البعث والجزاء، الذي لا بدّ منه، ولمّا قدّم الموت ـ الذي هو أثر صفة القهر ـ على الحياة ـ التي هي أثر صفة اللطف ـ قدّم صفة القهر على صفة اللطف بقوله: { وهو العزيزُ } : الغالب، الذي لا يُعجزه مَن أساء العمل، { الغفور }؛ الستور، الذي لاييأس منه أهل الإساءة والزلل. هـ.
ثم استشهد على تمام قدرته بقوله: { الذي خلق سبعَ سمواتٍ طِباقاً } أي: متطابقة بعضها فوق بعض، من طباق النعلَ: أذا خصفها طبقاً على طبق، وهو مصدر وصف به، أو: ذات طباق، أو: طوبقت طباقاً. وقوله تعالى: { ما ترى في خَلْقِ الرحمنِ من تفاوتٍ } صفة أخرى لسبع سموات، وضع فيها "خَلْق الرحمن" موضع الضمير للتعظيم، والإشعار بعلة الحكم، وبأنه تعالى خلقها بقدرته، رحمةً وتفضُّلاٍ، ولأنَّ في إبداعها نعماً جليلة. أو: استئناف. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحدٍ يصلح للخطاب، و"مِن" لتأكيد النفي، أي: ما ترى فيه شيئاً من تفاوت، أي: اختلاف وعدم تناسب أو اضطراب. وعن السدي: من عيْبٍ. وحقيقة التفاوت: عدم التناسب، كأنّ بعضاً يفوت بعضاً. وقرأ الأخوان: " تَفَوُّت" كالتعاهد والتعهّد, والبناء لواحد. { فارجع البصرَ } أي: ردَّه إلى السماء، حتى يصحَّ عندك ما أُخْبِرْت به معاينةً، حتى لا يبقى شُبهة. { هل ترى من فطورٍ }؛ صدروع وشقوق، جمع: فَطَر، وهو الشقّ، يقال: فطره فانفطر.
{ ثم ارجع البصرَ كرتينِ } أي: كرّره رجعتين مع الأُولى، فتكون ثلاثاً، أو: بالأُولى، وقيل: لمَ يُرد الاقتصار على مرتين، بل أراد به التكرير بكثرةٍ، أي: كرر نظرك ودقّقه مراراً، هل ترى خللاً أو عيباً في السموات؟ وجواب الأمر: { ينقلبْ }؛ يرجع { إليك البصرُ خاسئاً }؛ ذليلاً، أو: بعيداً مما تريد، وهو حال من البصر، { وهو حَسِيرٌ } أي: كليل لطول المعاودة، وكثرة المراجعة، ولم يحصل ما قصد.
ثم بيَّن حُسنها وبهجتها، فقال: { ولقد زيَّنا السماءَ الدنيا } أي: القُربى منكم { بمصابيحَ } أي: بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السراج فيه، زينةً لسقف هذه الدار، من السيارة والثوابت، تتراءى كأنها كلها مركوزة فيها، مع أنَّ بعضها في سائر السموات، وما ذلك إلاَّ لأنَّ كل واحدة منها مخلوقة على نمط رائق، تحار في فهمه الأفكار، وطراز فائق تهيم في دركه الأنظار. قال الفخر: وليس في هذه الآية ما يدل على أنَّ الكواكب مركوزة في سماء الدنيا، وذلك لأنَّ السموات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في سماء الدنيا، أو في سماء أخرى فوقها، فهي لا بد أن تظهر في سماء الدنيا، وتلوح فيها، فعلى كِلا التقديرين فالسماء الدنيا مُزَيّنة بها. هـ.
{ وجعلناها رُجوماً للشياطين } أي: وجعلنا فيها فائدة أخرى، هي: رجم أعدائكم الذي يُخرجونكم من النور إلى الظلمات، بانقضاض الشُهب المقتَبسة منها، فيأخذ المَلك شعلة من نار الكوكب, ويضرب بها الجني، فيقتله، أو يخبِّله, فيرجع غُولاً يُفزع الناسَ، وأمّا الكواكب فلا تزول عن أماكنها؛ لأنها قارّة في الفلك. قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة السماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمَن تأوّل فيها غير ذلك، فقد تكلّف ما لا علم له به. { وأعتدنا لهم }؛ للشياطين { عذابَ السعير } بعد الإحراق في الدنيا بالشُهب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: تبارك الذي بيده المُلك, الملُك الظاهري والمُلك الباطني، يُعطيهما مَن يشاء، ويمنعهما مَن يشاء، فالمُلك الظاهري عز يفنى والملك الباطني عز يبقى، وهما ضدان لا يجتمعان في شخص واحد، ولا يتفقان, بل أحدهما يغير من الآخر، والمراد بالملك الباطني: معرفة الشهود والعيان، فلا يناسبها إلاّ الخمول، ولا تقوم إلاّ به، ومهما ظهرت أخذ صاحبها وصدمته الحوافر. الذي خلق الموتَ في بعض القلوب والأرواح، فكانت ميتة جاهلة ذليلة حقيرة، والحياةَ في بعضها، فكانت حيّة عارفة مالكة عزيزة، فعل ذلك ليبلوكم أيك أحسنُ عملاً بالإقبال على الله، والتوجٌّه بكليته إليه، أو بالإدبار عنه، والإعراض عن الداعي إليه. وقيل: أحسن العمل: نيسان العمل ورؤية الفضل. هـ. والمراد: أنه يجتهد في العمل، ويغيب عنه، ومَن جعل الموتَ نُصب عينيه لا محالة يجتهد، ولله در القائل:

وَفِي ذِكْرِ هولِ الموتِ والقَبْر والبلاَ عَن الشغْل باللذَّاتِ للمرء زَاجِر
أَبَعْدَ اقْتِرابِ الأَربَعينَ تَربُّص وشَيْب فَذاك مُنْذِرٌ لك ذَاعِر
فَكَمْ في بُطون الأرضِ بعد ظُهورهامَحَاسِنهم فيها بوَالٍ دَوَاثِر
وأنت على الدنيا مُكب مُنَافِسلِحُطَامِها فيها حَريص مُكاثر
علَى خطرٍ تُمسي وتُصبح لاَهِياًأَتدْرِي بماذا لَوْ عقلت تُخاطِر
وَإِنْ أحد يَسعى لدُنياه جَاهداًويَذْهلُ عن أخراه لآ شَكَّ خاسِر
فَجدّ ولا تَغفَل، فَعَيشك زائِلوأَنْتِ إِلى دارِ الْمَنِيَّةِ صَائِر
>

وهو العزيز يُعز مَن أقبل عليه، والغفور لمَن رجع بعد الإعراض إليه. الذي خلق سبعَ سموات الأرواح، وتقدّم قريباً تفسيرها، وعالم الأوراح في غاية الإتقان، ليس فيه خلل ولا تفاوت، ولقد زيَّنا السماء الدنيا. قال القشيري: أراد بسماء الدنيا سماء القلب، لدنوه من سماء الروح، أي: زيّنا ونوّرنا سماء القلب بمصابيح العلم وأنوار الواردات القلبية، وسبحات الإلهامات الربانية، وجعلناها رجوماً للشياطين؛ الخواطر النفاسية، والهواجس الظلمانية الشيطانية، وأعتدنا لتلك الخواطر عذابَ السعير، فيحترق بالخواطر الملكية والرحمانية. هـ.
ثم ذكر وبال مَن كفر بعد هذا البيان العظيم، فقال: { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ }.