التفاسير

< >
عرض

نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ
١
مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
٢
وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ
٣
وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ
٤
-القلم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { نۤ }، هو من جملة الرموز، كـ{ ص } و { ق }، وكأنه ـ والله أعلم ـ يُشير إلى ما خصّ به نبيَّه من أسرار النبوة والخلافة، أي: نبأناك ونبَّهناك ونوّبناك خليفة عنا، أو نوّهنا بك في مُلكنا وملكوتنا، أو: أيها النبي المفخّم، والرسول المعظّم، وحق نون والقلم ما أنت بمجنون. وقيل: مختصر من نور وناصر ونصير، وقيل: من الرحمن، لكن ورد في الحديث: "أول ما خلق اللهُ القلم، ثم خَلَقَ النون" ، وهو الدواة، وذلك قوله: { ن والقلم } فإن صَحّ الحديث فهو أولى في تفسير الآية، وقد رُوي عن ابن عباس وغيره، في تفسير الآية: أنه الدواة والقلم الذي بأيدي الناس، ورُوي عن ابن عباس أيضاً: أنه الحوت الأعظم، الذي عليه الأرضون السبع.
قال الكلبي ومقاتل: اسمه يهموت ـ بالياء ـ وقيل: ليُوثا، وقيل: باهوتا. رُوي: أنّ الله تعالى لمّا خلق الأرض وفَتَقَها، بعث مِن تحت العرش ملكاً، فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع، فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق، والأخرى بالمغرب، باسطتين، قابضتين على الأرضين السبع، فلم يكن لقدميه موضع قرار، فأهبط الله من الفردوس ثوراً، له أربعون ألف قرنٍ، وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدماه، فأهبط الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس، غلظها خمسمائة عام، فوضعها على سنام الثور إلى أذنه، فاستقرت قدما المَلك عليه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض، ومنخاره في البحر، فهو يتنفس كل يوم نفساً، فإذا تنفّس مدَّ البحرُ، وإذا هدأ نَفَسُه جزرَ البحر، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله صخرة خضراء، كغلظ سبع سموات وسبع أرضين، فاستقرت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه:
{ { فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ } [لقمان:16] الآية، فلم تستقر الصخرة، فخلق الله نوناً ـ وهو الحوت العظيم ـ فوضع الصخرة على ظهره، وسائر جسده عارٍ، والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة الأزلية، يُقلُّ الدنيا بما فيها حرفان "كن فيكون". هـ. من الثعلبي، وهذا من باب عالَم الحكمة، وإلاّ فما ثَمَّ إلا تجليات الحق وأسرار الذات، والصفات الأزلية. وتفسير { ن } بهذا الحوت ضعيف.
قال ابن جزي: ويُبطل قول مَن قال: إنه الحوت أو الدواة، بأنه لو كان كذلك لكان مُعرباً، ولَكَان في آخره تنوين، فكونه موقوفاً دليل على أنه حرف هجاء، نحو: { الـۤم } وغيره. هـ.
ثم أقسم بالقلم، فقال: { والقلم وما يسطرون }، قيل: هو القلم الذي كتب اللوح المحفوظ، فالضمير في { يسطرون } للملائكة، وقيل: القلم المعروف عند الناس، أقسم له بِما فيه من المنافع والحِكم.
قال ابن الهيثم: من جلالة القلم أنه لم يكتب الله كتاباً إلا به، ولذلك أقسم به. الأقلام مطايا الفِطن ورسل الكرام، وقيل: البيان اثنان: بيان لسان، وبيان بَنَان، ومِن فضل بيان البنان أنَّ ما تبيَّنته الأقلام باق على الأيام، وبيان اللسان تدْرُسه الأعوام، ولبعض الحكماء: قِوام أمور الدين والدنيا: القلم، والسيف تحت القلم. وأنشد بعضهم في هذا المعنى:

قَلَمٌ مِنَ القَصَبِ الضَّعيف الأجْوفِأَمضَى من الرُّمْح الطويل الأهيَفِ
ومِن النِّصال إذا انْبَرَتْ لِقسِيِّهاومِن المُهَنَّد في الصِّقـال المُـرْهَـفِ
وأَشَـدُّ إِقدَامـاً من الليْـثِ الـذييَكْوِي القُلوبَ إذا بدا في الموقِفِ

وقال آخر:

قَوْمٌ إذا عَرَفوا عَداوةَ حَاسِدٍ سَفَـكُـوا الـدِّمَـا بأَسِـنَّـةِ الأَقْـلامِ
ولَضَرْبَةٌ مِـن كـاتـبٍ بِبَنَـانِـهِ أَمْضَـى وأَبْـلَـغُ من رقيـق حُسَـامِ

فالضمير في { يَسْطُرون } على هذا لبني آدم، فالضمير يعود على الكتبة المفهومة من القلم اللازمة له.
ثم ذكر المقسَم عليه، فقال: { ما أنت بنعمةِ ربك بمجنونٍ } أي: ليس بك جنون كما يزعمه الكفرة، فـ(بنعمة ربك): اعتراض بين "ما" وخبرها، كما تقول: أنت بحمد الله فاضل، وقيل: المجرور في موضع الحال، والعامل فيه معنى النفي، كأنه قيل: أنت بريء من الجنون، ملتبساً بنعمة ربك، التي هي النبوة والرسالة. والتعبير بعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معاريج الكمال، مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه السلام والإيذان بأنه تعالى يُتم نعمته عليه، ويُبلغه من العلو إلى غاية لا غاية وراءه، والمراد: تنزيهه عليه السلام عما كانوا ينسبونه من الجنون حسداً وعداوة ومكابرة، مع جزمهم بأنه صلى الله عليه وسلم في غاية الغايات القاصية، ونهاية النهايات الثابتة من حصافة العقل، ورزانة الرأي. { وإِنَّ لك } في مقابلةِ مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم، وتحمُّلك لأعباء الرسالة { لأجراً } عظيماً لا يُقادَر قدره { غيرَ ممنونٍ }؛ غير مقطوع، أو: غير ممنون به عليك من جهة الناس، بأن أعطاه تعالى لك بلا واسطة.
{ وإنك لعلى خُلُقِ عظيم } لا يُدْرِك شأوَه أحدٌ مِن الخلق، ولذلك تَحْتَمِل من جهتهم ما لا يحتمله أحد من البشر. وسُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلقة صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خُلقه القرأن، ألست تقرأ القرآن:
{ { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ... } [المؤمنون:1] الآية. وقيل: المراد: التأدُّب بآداب القرآن، بامتثال أمره واجتناب نهيه.
قال ابن جُزي: وتفصيل ذلك: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جمع كل فضيلة، وحاز كل خصلة جميلة، فمن ذلك: شرف النسب، ووفور العقل، وكثرة العلم والعبادة، وشدة الحياء، والسخاء، والصدْق، والشجاعة، والصبر، والشكر، والمروءة، والتوءدة، والاقتصاد، والزهد، والتواضع، والشفقة، والعدل، والعفو، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، وحُسن المعاشرة، وحسن التدبير، وفصاحة اللسان، وقوة الحواس، وحسن الصورة، وغير ذلك، حسبما ورد في أخباره وسِيرَه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال:
" "بُعثت لأتمم مكارمَ الأخلاق" ، قال الجنيد: سُمي خُلقه عظيماً؛ لأنه لم تكن له همة سوى الله عزّ وجل. هـ. والخُلق: السجية والطبع. قال في القاموس: الخُلْق بالضم وبضمتين: السجية، والطبع، والمروءة والدين. هـ.
وعرَّف بعضهم حقيقة الخُلق، فقال: مَلكة للنفس، تصدر عنها الأفعال بسهولة، من غير فكر ولا رَوية، فخرج الصبر؛ لأنه بصُعوبة، والفكرة؛ لأنها تكون بروية، ثم ينظر في تلك الأفعال الصادرة عن تلك المَلكة؛ فإن كانت سيئة، كالغضب، والعَجَلة، والكِبر، والفظاظة، والغلظة، والقسوة، والبُخل، والجُبن، وغير ذلك من القبائح، سُمي خُلقاً سيئاً، وإن كانت تلك الأفعال حسنة، كالعفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، ولين الجانب، وتحمل الأذى، سُمي خلقاً حسناً، الذي اتصف به صلى الله عليه سلم على أكمل الوجوه، ومَدَحه بقوله:
" ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق يبلغ درجة الصائم القائم " وبقوله: " "أفضل ما أُعطي المرء الخلق الحسن" في أحاديث كثيرة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد يُقال: أشار بقوله: { ن } إلى سرعة إنفاذ أمره بين الكاف والنون، ثم أقسم بالقلم على تنزيه نبيه من الجنون، ويُقال مثل ذلك لخلفائه، إذا رُمُوا بالجنون أو السحر أو سخافة العقل، ويُقال لهم في إرشاد الناس وتذكيرهم ما قيل لنبيّهم: { وإِنَّ لك لأجراً غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم }، فحُسن الخلق دليل على ثبوت الخصوصية، وعدمه دليل على عدم وجودها؛ لأنّ الخمرة إذا دخلت القلب والروح هَذّبت أخلاقهما، وطهّرت أكدارهما، وما تُبقي إلاَّ الذهب الإبريز.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف: كان صلى الله عليه وسلم على خُلقٍ عظيم؛ لشرح صدره بالنور، كما قال تعالى:
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [الشرح:1]، ولحديث شرح صدره وشقه وتطهيره، ونزع حظ الشيطان منه، ثم إفراغ الحكمة والنور فيه، حتى مُلىء بذلك، فكان شيئاً محضاً لله تعالى، لا تعلُّق له بغيره، فناسب القرأن، وصار خُلقاً له، منقوشاَ فيه، من غير روية، ولا تكسب في ذلك، بل طُبع على ذلك، وسرى فيه أمر الوحي، وجرى على مقتضاه في جميع أحواله، ولذلك تجد السُنة مشرعة من القرآن، وخارجة منه خروج اللبن من الضرع، والزبد من اللبن، فصار متخلّقاً بالقرآن، وفي الحقيقة متخلّقاً بخُلق الله، ومظهرَ أوصافه، ومجلاة سره وشأنه، { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللهَ } [الفتح:10] الآية، ومَن رآه فقد رأى الحق. والله أعلم. هـ. فعائشة رضي الله عنها احتشمت وسترت حيث عبّرت بالقرآن، ولم تقل كان خلقه خلق الرحمن.
ثم ردّ عليهم نسبة الجنون لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ }.