البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
{ وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ... }
يقول الحق جلّ جلاله: { وأنَّ المساجدَ لله } أي: ومن جملة ما أُوحي إليَّ: أنَّ المساجد، أي: البيوت المبنية للصلاة فيها هي لله، وقيل: معناه: ولأنّ المساجد لله { فلا تدعوا }، على أنَّ اللام متعلّقة بـ "تدعوا"، أي: فلا تدعوا { مع الله أحداً } في المساجد؛ لأنها خالصة لله ولعبادته، فلا تعبدوا فيها غيره تعالى، ولا تفعلوا فيها إلا ما هو عبادة. وقيل: المراد: المسجد الحرام، والجمع؛ لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة، أو لأنه قبلة المساجد، وقيل: الأرض كلها؛ لأن جُعلت للنبي صلى الله عليه وسلم مسجداً وطهوراً، وقيل: أعضاء السجود السبعة التي يسجد عليها العبد، وهي: القدمان، والركبتان، واليدان، والوجه، يقول: هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك، فلا تسجد عليها لغيره، فتجحد نِعَمه، ولا تذلها لغير خالقها. فإن جعلت المساجد المواضع، فواحدها مسجِد بكسر الجيم، وإن جعلت الأعضاء، فبفتح الجيم.
{ وأنه } أي: ومما أوحي إليّ أن الشأن { لمَّا قام عبدُ الله }، وهو محمد صلى الله عليه وسلم { يدعوه }؛ يعبده في الصلاة، ويقرأ القرآن في صلاة الفجر، كما تقدم في الأحقاف، ولم يقل: نبي الله، أو رسول الله؛ لأنَّ العبودية من أشرف الخصال، أو: لأنه لمّا كان واقعاً في كلامه صلى الله عليه وسلم عن نفسِه جيء به على ما يقتضيه التواضع، أو: لأنَّ عبادة عبد الله ليست بأمر مستبعد حتّى يجتمعوا عليه، كما قال: { كادوا } أي: كاد الجن { يكونون عليه لِبداً }؛ جماعات متراكبين من ازدحامهم عليه، تعجُّباً مما رأوا من عبادته، واقتداء أصحابه به، أو إعجاباً مما تلي من القرآن؛ لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا بنظيره. وقيل: معناه: لمَّا قام عليه السلام يعبد اللهَ وحدَه مخالفاً للمشركين، كادوا يزدحمون عليه متراكبين. واللبدّ: جمع لبدة، وهي ما تلبّد بعضه على بعض. وعن قتادة: تلبّدت الإنس والجن على أن يُطفئوا نوره، فأبى اللهُ إلاَّ أن يُظهره على مَن ناوأه. قال ابن عطية: قوله تعالى: (وأنه...) الخ، يحتمل أن يكون خطاباً من الله تعالى، وأن يكون إخباراً عن الجن.
{ قال إِنما أدعو } أي أعبد { ربي ولا أُشرك به } في عبادتي { أحداً }، فليس ذلك ببدع ولا بمستنكر يوجب التعجُّب أو الإطباق على عداوتي، وقرأ عاصم وحمزه "قل" بالأمر، ثم تبرّأ من ملِك الضر والنفع لأحد ولا لنفسه، وأنَّ ذلك لله وحده، فلا يُعبد إلاَّ إياه، فقال: { قل إِني لا أملك لكم ضرًّا ولا رَشَداً }, والأصل: لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعاً، ولا غيًّا ولا رشداً, فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر، أو أراد بالضر: الغي، أي: لا أستطيع أن أضركم ولا أنفعكم؛ إذ ليس من وظيفتي إلاَّ الإنذار.
{ قل إِني لن يُجيرني من الله أحدٌ } أي: لن يدفع عني عذابه إن عصيته، كقول صالح عليه السلام: { { فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ } [هود:63]، { ولن أجد من دونه مُلتحداً }؛ مُلتجئاً { إلا بلاغاً من الله }، استثناء من { لا أملك } أي: لا أملك لكم شيئاً إلا تبليغ الرسالة، و { قل إني لن يجيرني }: اعتراض لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه، وبيان عجزه، وقيل: { بلاغاً }: بدل من { ملتحداً }، أي: لن أجد من دونه ملجاً إلاّ أن أُبلّغ عنه ما أرسلني به، أي: لا ينجيني إلاَّ أن أُبلغ عن الله ما أُرسلت به فإنه ينجيني، وقوله: { ورسالاته }: عطف على "بلاغاً"، كأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات، أي: إلاّ أن أُبلغ عن الله، فأقول قال الله كذا، ناسباً قوله إليه، وأن أُبلّغ رسالاته التي أرسلني بها، بلا زيادة ولا نقصان و(مِن) ليست صلة للتبليغ، إنما هي بمنزلة (مِن) في قوله: { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللهِ } [التوبة:1] أي: بلاغاً كائناً من الله وتبليغ رسالاته, قاله النسفي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وأنَّ مساجد الحضرة لله، والحضرة: شهود الذات الأقدس وحدها، فلا تدعوا مع الله أحداً، أي: لا تَروا معه غيره، فتخرجوا من حضرته، وأنه لمّا قام عبدُ الله، وهو الداعي إلى الله في كل زمان يدعوه، ويدعو إليه، كادوا يكونون عليه لِبداً، إمّا متعجبين منه، أو مقتبسين من أنواره، قال: إنما أدعو ربي ولا أُشرك به شيئاً, قل يا أيها الداعي لتلك اللبد، لا أملك لكم من الله غيًّا ولا رشداً، إلاَّ بلاغاً، أي إنذاراً وتبليغ ما كُلفت به، فإنما أنا أدعو، والله يهدي على يدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم، قل يا أيها الداعي: إني لن يُجيرني من الله أحد إن قَصّرت في الدعوة أو أسأت الأدب، ولن أجد من دونه ملتجأ. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وبال مَن ردّ الرسالة، فقال:
{ ...وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً }.
يقول الحق جلّ جلاله: { ومَن يعص اللهَ ورسولَه } في رد رسالته، وعدم قبول ما جاء به الرسول، { فإِنَّ له نارَ جهنمَ }، وقُرىء بفتح الهمزة، أي: فحقه، أو فجزاؤه أنّ له نار جهنم، { خالدين فيها } أي: في النار { أبداً }، وحّد في قوله "له" وجمع في "خالدين" للفظ (من) ومعناه. { حتى إِذا رَأَوا ما يوعدون }، متعلق بمحذوف، يدل عليه الحال من استضعاف الكفار لأمره صلى الله عليه وسلم، واستقلالهم لعدده، كأنه قيل: لا يزالون على ما هم عليه، { حتى إّذا رَأَوا ما يُوعدون } من فنون العذاب في الآخرة { فسيعلمون } عند حلول العذاب بهم { مَن أَضْعَفْ ناصراً وأقلُّ عدداً } أهم أم المؤمنون؟ بل الكفار لا ناصر لهم يؤمئذ، والمؤمنون ينصرهم الله ويُعزّهم. وحُمل { ما يوعدون } على ما رأوه يوم بدر، ويُبعده قوله تعالى: { قل إِن أدرِي أقريب ما تُوعَدُون } من العذاب، { أم يجعل له ربي أمداً }؛ غاية بعيدة, يعني: أنكم معذَّبون قطعاً، ولكن لا أدري أهو حالّ أم مؤجّل؟
{ عالِمُ الغيبِ } أي: هو عالم الغيب، { فلا يُظْهِر }؛ فلا يُطلع { على غيبه أحداً إِلاّ مَن ارتضى من رسولٍ } أي: إلاَّ رسولاً قد ارتضاه لِعلْمِ بعض الغيب؛ ليكون إخباره عن الغيب معجزةً له، والولي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم به، وإنما أخبر به بناءً على رؤيا، أو بالفراسة، أو بتجلِّ قلبي، على أنّ كل كرامة لوليّ فهي معجزة لنبيه. قال بعضهم: وفي هذه الآية دلالة على تكذيب المنجّمة، وليس كذلك، فإنَّ فيهم مَن يَصدق خبره، وكذلك المتطببة، فإنهم يعرفون طبائع النبات، وذا لا يُعرف بالتأمُّل، فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره، وبقي علمه في الخلق. قاله النسفي. فتحصّل: أنّ إطلاع النبي على الغيب قطعي، وغيره ظني.
وقال أبو السعود: وليس في الآية ما يدلّ على نفي كرامات الأولياء المتعلقة بالكشف، فإنّ اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكشف بالرسل لا يستلزم عدم حصول مرتبةٍ ما من تلك المراتب لغيرهم أصلاًن ولا يدعي أحدٌ لأحدٍ من الأولياء ما في رتبة الرسل عليهم السلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح. هـ. وفيه تعريض بالزمخشري، فإنه استدل بالآية على نفي كرامات الأولياء، قال: لأنَّ الله خصّ الاطلاع على الغيب بالرسل دون غيرهم. قال بعض العلماء: ولا غرابة في إنكار معظم المعتزلة لكرامات الأولياء؛ إذ هم لم يُشاهدوا في جماعتهم الضالة المضلة ولياً لله تعالى قط، فكيف يعرفون الكرامة؟!!. هـ.
{ فإنه يَسْلُكُ }؛ يدخل { مِن بين يديه } أي: الرسول، { ومِن خلفه } عند إظهاره على غيبه، { رَصَداً }؛ حفظة وحَرَساً من الملائكة يحفظونه من تعرُّض الشيطان، لما أظهره عليه من الغيوب، ويعصمونه من وساوسهم، وتخاليطهم حتى يُبلغ الوحي، { ليعلم } اللهُ عِلْمَ شهادة { أن قد أَبلغوا } أي: الرسل { رسالات ربهم } كاملة، بلا زيادة ولا نقصان، إلى المرسَل إليهم، أي: ليعلم ذلك على ظهور، وقد كان يعلم ذلك قبل وجوده. ووحّد الضمير في " يديه وخلفه "؛ مراعاة للفظ (مَن)، وجمع في (أَبلَغوا) لمعناه، و"أن" مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن، والجملة خبرها، { وأحاط } الله تعالى { بما لديهم } أي: بما عند الرسل من العلم { وأحْصَى كُلَّ شيءٍ عَدَداً }، من القطر، والرمل، وورق الأشجار، وزبد البحر، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟! و"عدداً": حال، أي: علم كلّ شيءٍ معدوداً محصوراً، أو مصدر، أي: أحصاه إحصاءً.
الإشارة: ومَن يعص اللهَ ورسولَه، أو خليفته الداعي إلى الله بطريق التربية النبوية، فإنَّ له نار القطيعة، خالدين فيها أبداً، وقد كانوا في حال حياتهم يستظهرون عليه بالدعاوى الفارغة، وكثرة الأتباع، حتى إذا رأوا ما يُوعدون من أمارات الموت، فسيعلمون مَن أضعف ناصراً وأقل عدداً، قل: إن أدري أقريب ما تُوعدون من الموت، أم يجعل له ربي أمداً، ولا بد أن ينتهي، ويقع الرحيل إلى دار تنكشف فيها السرائر، ويُفضح فيها الموعود. عالم الغيب، أي: يعلم ما غاب عن الحس من أسرار ذاته وأنوار ملكوته، أي: يعلم أسرار المعاني القائمة بالأواني، فلا يظهر على غيبه أحداً، أي: لا يكشف عن اسرار ذاته في دار الدنيا إلاّ لمَن ارتضى من رسول، أو نائبه، وهو العارف الحقيقي، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصَداً، أي: يحفظه من جميع القواطع، من كل جهاته، حتى يوصله إلى حضرة أسرار ذاته، ليظهر أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ودعوا الناس إلى معرفة ذاته، وقد أحاط تعالى بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.