التفاسير

< >
عرض

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً
١
يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً
٢
وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً
٣
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً
٤
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً
٥
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً
٦
وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً
٧
-الجن

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: قد أجمعوا على فتح ( أنه)؛ لأنه نائب فاعل " أوحى"، و { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ } [الجن:16] و { { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ } [الجن:18] للعطف على { أنه استمع } فـ"أن" مخففة، و { أَن قَدْ أَبْلَغُواْ } [الجن:28] لتعدّي "يعلم" إليها، وكسر ما بعد فاء الجزاء، وبعد القول، نحو: { { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [الجن:23] و { قالوا إنّا سمعنا }؛ لأنه مبتدأ محكي بعد القول. واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من { أنه تعالى جَدٌ ربنا } إلى: { وأنَّا منا المسلمون }، ففتحها الشامي والكوفيّ [غير] أبي بكر؛ عطفاً على { أنه استمع }، أو على محلّ الجار والمجرور في { آمنا به } تقديره: صدّقناه وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربنا { وأنه كان يقول سفيهنا... } إلى آخره، وكسرها غيرُهم عطفاً على { إنّا سمعنا }، وهم يقفون على آخر الآيات.
يقول الحق جلّ جلاله: { قل } يا محمد لأمتك: { أُوحي إِليَّ أنه استمع } أي: الأمر والشأن استمع للقرأن { نفر من الجن }، وهم جن نصيبين، كما تقدّم في الأحقاف، وكانوا متمسكين باليهودية. والنفر ما بين الثلاثة والعشرة. والجن عاقلة خفية، يغلب عليهم الناري والهوائية، وقيل: روح من الأرواح المجرّدة. وفيه دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر بهم وباستماعهم، ولم يقرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته، فسمعوها، فأخبره الله تعالى بذلك، فهذه غير الحكاية التي حضر معهم، ودعاهم، وقرأ عليهم سورة الرحمن، كما في حديث ابن مسعود. { فقالوا } أي: المستمِعون حين رجعوا إلى قومهم: { إِنَّا سمعنا قرآناً }؛ كتاباً { عجباً }؛ بديعاً، مبايناً لكلام الناس في حُسن النظم ورقّة المعنى. والعجب: ما يكون خارجاً عن العادة، وهو مصدر وصف به للمبالغة.
{ يهدي إِلى الرُّشْد }؛ إلى الحق والصواب، { فآمنّا به } أي: بذلك القرآن، ولمَّا كان الإيمان به إيماناً بالله وتوحيده، وبراءةً من الشرك، قالوا: { ولن نُشْرِكَ بربنا أحداً } من خلقه، حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد، ويجوز أن يكون الضمير في "به" لله تعالى؛ لأنَّ قوله: (بربنا) يُفسّره.
{ وأنه تعالى جَدُّ ربِّنا } أي: ارتفع أو تنَزّه عظمة ربنا، أو سلطانه, أو غناه، يُقال: جَدّ فلان في عيني إذا عَظُم, ومنه قول عمر: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ في عيننا، أي: عظم في عيوننا، { ما اتخذَ صاحبةً }؛ زوجة { ولا ولداً } كما يقول كفار الجن والإنس، والمعنى: وصفوه بالاستغناء عن الصاحبة والولد؛ لعظمته وسلطانه، أو لغناه، وقُرىء "جَدًّا" على التمييز، أي: أنه تعالى ربنا جَداً، وقُرىء بكسر الجيم, أي: تنزّه صِدق ربوبيته، وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد، وذلك أنهم لمَّا سمعوا القرآن، واهتدوا للتوحيد والإيمان، تنبّهوا للخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيهه تعالى بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد, فاستعظموه ونزّهوه تعالى عنه.
{ وأنه كان يقول سفيهُنا } أي: جاهلنا من مردة الجن، أو إبليس؛ إذ ليس فوقه سفيه، { على الله شططاً } أي: قولاً ذا شطط, أي: بُعدٍ وجورٍ، وهو الكفر؛ لبُعده عن الصواب، من: شطت الدار: بَعُدت، أو: قولاً مجاوزاً للحدّ، بعيداً عن القصد، أو هو شطط في نفسه؛ لفرط بُعده عن الحق، وهو نسبة الصاحبة والولد لله تعالى. والشطط: مجاوزة الحدِّ في الظلم وغيره. { وأنَّا ظننا أن لن تقول الإِنسُ والجنُّ على الله كذباً } أي: قولاً كذباً أو مكذوباً فيه، أي: كان في ظننا أنَّ أحداً لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد، فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبيّن لنا بالقرآن كذبهم.
{ وأنه كان رجالٌ من الإِنس يعوذون برجالٍ من الجن }، كان الرجل من العرب إذا نزل بوادٍ قفرٍ وخافَ على نفسه، يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم، فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سُدنا الإنس والجنّ، وذلك قوله تعالى: { فزادوهم }؛ زاد الإنسُ والجنَّ باستعاذتهم بهم { رَهَقاً }: طغياناً وسفهاً وتكبُّراً وعتواً، أو: فزاد الجنُّ والإنسَ رهقاً: إثماً وغيًّا؛ بأن أضلوهم، حتى استعاذوا بهم. { وأنهم } أي: الجن { ظنوا كما ظننتم } يا أهل مكة { أن لن يبعثَ اللهُ أحداً } بعد الموت، أي: إنَّ الجن كانوا يُنكرون البعث كإنكاركم يا معشر الكفرة، ثم بسماع القرآن اهتدوا، وأقرُّوا بالبعث، فهلاّ أقررتم كما أقرُّوا؟! أو: ظنوا ألن يبعث اللهُ رسولاً من الإنس. وبالله التوفيق.
الإشارة: كما كانت تسمع الجنُّ من الرسول صلى الله عليه وسلم وتأخذ عنه، كذلك تسمع من خلفائه من الأولياء والعلماء الأتقياء, فهي تحضر مجالسَ الذكر والتذكير والعلم، على حسب ما يطلب كلُّ واحد منهم، وقد حدثني بعضُ أصحابنا أنه بات في موضع خالٍ، فأتاه رجلان من الجن وتحدّثا معه، وأخبره أنهما من الجن نازلان مع قومهما في ذلك الموضع، وقالا له: إنا لنحضر مجلس شيخكما ـ أي: مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه ـ ونسمع منه. هـ. ففيهم الأولياء, والعلماء، والقُراء، وسائر الطرائق، كما يأتي في قوله: { طرائق قِدداً }. وقال الورتجبي: خلق اللهُ بعض أوليائه من الجن، لهم أرواح ملكوتية، وأجسام روحانية، وهم إخواننا في المعرفة، يُطيعون اللهَ ورسوله، ويُحبون أولياءه، ويستنُّون بسنّة نبينا صلى الله عليه وسلم، ويسمعون القرآن، ويفهمون معناه، وبعضهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا كلام الحق منه شِفاهاً، وخضعوا له إذعاناً، واستبشروا برَوح الله، ورَوح قضائه استبشاراً. هـ. قلتُ: ومعرفة الآدمي أكمل؛ لاعتدال بشريته وروحانيته، والجن الغالب عليه الانحراف للطافة بشريته واحتراقها.
وقوله تعالى: { يهدي إلى الرُشد }، قال الجنيد: يهدي إلى الوصول إلى الله، وهو الرشد. هـ. وقال الورتجبي: يهدي إلى معدن الرشد، وهو الذات القديم. هـ. وقوله تعالى: { وأنه تعالى جَدُّ ربنا... } الخ، أي: تنزهت عظمة ربنا الأزلية، عن اتخاذ الصاحبة والولد، إنما اتخاذ الصاحبة والولد من شأن عالم الحكمة، ستراً لأسرار القدرة، فافهم. وقال الجنيد: ارتفع شأنه عن أن يتخذ صاحبة أو ولداً. هـ. والشطط الذي يقوله السفيه الجاهل هو وجود السوي مع الحق تعالى، وهو أيضاً الكذب الذين ظنّت الجن أن لن يُقال على الله، ولذلك قال الشاعر:

مُذْ عَرفْتُ الإِلَهَ لَمْ أَرَ غَيْراًوكَذّا الْغَيْرُ عندنا مَمنوعُ

وقال بعض العارفين: لو كُلفت أن أشهد غيره لم أستطيع، فإنه لا شيء معه حتى أشهده. هـ. وكل مَن استعاذ بغير الله فهو ضال مضل، وكل مَن أنكر النشأة الأخرى فهو تالف ملحد.
ثم ذكر امتناعهم من استراق السمع، فقال: { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا }.