التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ
١
قُمْ فَأَنذِرْ
٢
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
٣
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
٤
وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ
٥
وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ
٦
وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ
٧
فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ
٨
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ
٩
عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ
١٠
-المدثر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { يا أيها المدَّثِّر } أي: المتدثر, أُدغمت التاء في الدال، أي: المتلفّف في ثيابه، من الدِّثار، وهو كلُّ ما كان من الثياب فوق الشعار، والشعار: الثوب الذي يلي الجسد. قيل: هي أول سورة نزلت، والصحيح: أن أول ما نزل: { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِكَ... } [العلق:1] إلى قوله { ...عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق:5] ثم فتر الوحي نحو سنتين، فحزن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حتى جعل يأتي شواهق الجبال، فيريد أن يتردَّى منها، فأتاه جبريلُ عليه السلام، وقال: إنك نبي الله، فرجع إلى خديجة، فقال: دثِّروني وصُبوا عليَّ ماءً بارداً، فنزل: { يا أيها المُدَّثر }، وقيل: سمع من قريش ما كرهه، فاغتم، فتغطّى بثوبه متفكراً، كما يفعل المغتم، فأمر ألاّ يدع إنذارهم وإن آذوه، فقال: { قُمْ } أي: من مضجعك, أو قيام عزم وتصميم، { فأنذِرْ } أي: فَحذِّر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا، أو فافعل الإنذار من غير تخصيص، كما يُنبىء عنه قوله تعالى: { { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } [سبأ:28].
{ وربَّك فَكَبِّرْ } أي: خُص ربك بالتكبير، وهو التعظيم قولاً واعتقاداً، فلا يَكْبُرُ في عينك إلاّ الله، وقل عندما يعروك من غيره: الله أكبر. رُوي أنه لمّا نزل، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"الله أكبر" فكبَّرت خديجة وفرحت، وأيقنت أنه الوحي. وقد يُحمل على تكبير الصلاة، والفاء بمعنى الشرط، كأنه قيل: أيّ شيء حدث فلا تدع تكبيره.
{ وثيابَك فطهِّرْ } مما ليس بطاهر، فإنه واجب في الصلاة، فلا تصح إلاّ بها، ووَصْفُ كمالٍ في غيرها، وذلك بصيانتها عن النجاسات، وغسلها بعد إصابتها، أو قَصِّرْها مخالفةً للعرب في تطويلهم الثياب، وجرهم الذيول كِبراً، فإنَّ طولها يؤدي إلى جرها على القاذورات، وهو أول ما أُمر به صلى الله عليه وسلم من ترك العادات المذمومة، وقيل: المراد تطهير النفس مما يُستقبح من الأفعال، ويُستهجن من الأحوال, يُقال: فلان طاهر الذيل والرداء، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق، ولأنَّ مَن طهر باطنه ظاهره غالباً. قال ابن العربي في أحكامه: والذي يقول: إنها الثياب المَجازية أكثر. هـ. ومَن قال: إنها الحسية استدل بها على وجوب غسل النجاسة للصلاة، وبه قال الشافعي، ومالك، في أحدى الروايات عنه.
{ والرُّجزَ فاهجرْ } أي: دم على هجرانها، قاله الزهري وغيره. وقال ابن عباس: أي: اترك المآثم التي توجب الرجز، وهو العذاب، وفيه لغتان: كسر الراء، وضمها، وقُرىء بهما معاً. قال الكسائي: الرُّجز ـ بالضم: الوثن، وبالكسر: العذاب. { ولا تمننْ تستكثرُ } أي: ولا تعطِ مُتكثِّراً، أي: رائياً لما تعطيه كثيراً، أو طالباً للكثير على ما أعطيت، فإنك مأمور بأجلّ الأخلاق، وأشرف الآداب، وهو من المنّ بمعنى الإنعام، يُقال: مَنَّ عليه إذا أعطاه وأنعم عليه، "وتستكثر": حال، أي: لا تُعطِ حال كونك تُعد ما أعطيت كثيراً، أو طالباً أكثر مما أعطى. وقرأ الحسن بالجزم جواب النهي. { ولربك فاصبِرْ } أي: لوجه الله استعمل الصبر على أوامره ونواهيه، وعلى تحمُّل مشاق أعباء التبليغ وأذى المشركين.
{ فإِذا نُقِرَ في الناقور } أي: نُفخ في الصور، وهو فَاعُول من النقر، بمعنى التصويت، وأصله: القرع، الذي هو سبب الصوت، والفاء سببية، كأنه قيل: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم هائل، يلْقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى عاقبة صبرك، والعامل في "إِذا" قوله: { فذلك يومئذٍ يومٌ عسيرٌ }، فإنَّ معناه: عسر الأمر على الكافرين إذا نُقر في الناقور، و"ذلك" إشارة إلى وقت النقر، وهو مبتدأ، و { يومئذ }: مرفوع المحل بدل منه، و { يوم عسير }: خبر، كأنه قيل: يوم النقر يوم عسير { على الكافرين }، وأكّده بقوله: { غيرُ يسير }؛ ليؤذن بأنه يَسيرٌ على المؤمنين، أو عسيرٌ لا يُرجى أن يرجع يسيراً، كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا. واختُلف في أن المراد به: يوم النفخة الأولى أو الثانية، والحق إنها الثانية؛ إذ هي التي يختص عسرها بالكافرين، وأما النفخة الأولى، فحكمها ـ الذي هو الإصعاق ـ يعم البر والفاجر، على أنها مختصة بمَن كان حيًّا عند وقوعها، وقد جاء في الأخبار: أن في الصور ثُقْباً بعدد الأرواح، وأنها تجمع في تلك الثُقب في النفخة الثانية، فتخرج عند النفخ من كل ثقبة روح، فترجع إلى الجسد الذي نزعت منه، فيعود الجسد كما كان حيًّا، بإذن الله تعالى.
الإشارة: يا أيها المتدثر بالعلوم والأسرار والمعارف؛ قُم فأنذر الناسَ، والخطاب للداعي الأكبر صلى الله عليه وسلم، ويتوجه لخليفته في كل زمان، وهو مَن وجَّهه الله لتذكير العباد ليحيي به الدين في أول كل عصر، كما في الأثر.
قال الورتجبي: يا أيها المدثر، أي: يا أيها الغريق في قَلزوم القِدم، قُم لدعوى محبتي، وأنذر أحبائي عن الاشتغال بغيري، وأَظْهِر جواهر حقائب بحر غيبي للمقبلين إلينا. ثم قال على قوله: (وربك فَكَبِّر)، عن الحُسيْن: عَظِّم قدره عن احتياجه إليك في الدعوة إليه، فإنَّ إجابة دعوتك ممن سبقت له الهداية مني. هـ. قال القشيري: كبِّر ربك عن احتياجه إلى تكبير أحد، فإنَّ كبرياءه ذاتيٌّ له، قائم بنفسه، لا بغيره من المكبِّرين. هـ. والمتبادر أنه أمَرَ الداعي بتعظيم الله وإجلاله دون غيره من سائر المنذرين، فلا تمنعه جلالة أحد من العظماء والمتكبرين عن التصدَّي لإنذاره وتذكيره.
وقوله تعالى: { وثيابك فطهِّر } أي: نَزّه ثياب إيمانك وعرفانك عن لوث الطمع في الخلق، وخصوصاً عند الدعوة، فلا تسأل عليه أجراً، ولا تؤمّل في جانبه عوضاً، فتُحرم بركة إنذارك، ويقلّ الانتفاع به. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: يا علي، طَهِّر ثيابك من الدنس، تَحْظَ بمدد الله في كل نَفَس، فقلتُ: وما ثيابي يا رسول الله؟ فقال: إنَّ الله كساك حُلة المعرفة، ثم حُلة المحبة، ثم حُلة التوحيد، ثم حُلة الإيمان، ثم حُلة الإسلام، فمَن عرف الله صَغُر لديه كل شيء، ومَن أحبّ الله هان عليه كل شيء، ومَن وحّد الله لم يشرك به شيئاً، ومَن آمن بالله أَمِن من كل شيء، ومَن أسلم لله قلّما يعصيه، وإن عصاه اعتذر إليه، وإذا اعتذر إليه قَبِل عُذره. قال: ففهمتُ حينئذ قوله تعالى: { وثيابك فَطَهّر }. هـ. والرُّجز: كلُّ ما يشغل عن الله، فيُهجر اشتغالاً بالله، ولا تمنن ببذل مُهجتك على ربك، مستكثراً لذلك، فإنَّ قيمة وجودك لا تُساوي عُشر العشر من عظمة وجوده، الذي يمنحك بدلاً من وجودك الذي أعطيته، أو: ولا تمنن عليه بوجودك تطلب وجوده، فإنَّ وجوده إنما يُنال بكرمه، لا بشيء من العلل، ولربك فاصبر، أي: ولأجل الوصول إلى ربك فاصبر على مشاق السير، أو: ولربك فاصبر على إذاية الخلق في حال الدعوة. قال الورتجبي: ولربك فاصبر في بذل وجودك في جريان تقديره، أو مع ربك، وفي ربك، حين انكشف لك أنوار أسراره، وخاصيتُكَ في النظر إلى جلاله وجماله، ولا تنزعج، فتسقط عن درجة التمكين. وقال القاسم: ولربك فاصبر تحت القضاء والقدر. هـ. فإذا نُقر في الناقور: نُفخ في صور الفناء، فتندك السموات والأرض، بإظهار ما فيها من الأسرار، فتُطوى عن نظر العارف، فيفنى مَن لم يكن، ويبقى مَن لم يزل، فذلك يوم عسير على الكافرين بطريق الخصوص؛ إذ لا تنهدم العوالم لعين البصيرة إلاَّ لمَن هدم عوائد نفسه، وخالف هواه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر بعض رؤساء الكفرة الذين يعسر عليهم ذلك اليوم، فقال: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً }.