البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
يقول الحق جلّ جلاله: { لا أُقسم } أي: أُقسم. وإدخال "لا" النافية على فعل القسم شائع، كإدخاله على المقسم به في "لا وربك" و"لا والله"، وفائدتها: توكيد القسم، وقيل: صلة، كقوله: { { لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } [الحديد:25] وقيل: هي نفي وَرَدَ لكلام معهود قبل القسم، كأنهم أنكروا البعث، فقيل: لا، أي: ليس الأمر كذلك، ثم قال: أُقسم { بيوم القيامة } إنَّ البعث لواقع. وأيًّا ما كان ففي الإقسام على تحقيق البعث بيوم القيامة من الجزالة ما لا يخفى. وقيل: أصله: لأُقسم، كقراءة ابن كثير, على أنَّ اللام للابتداء، و"أٌقسم": خبر مبتدأ مضمر، أي: لأنا أُقسم، ويُقويه أنه في الإمام بغير ألف ثم أشبع فجاء الألف.
{ ولا أٌقسم بالنفس اللوّامة }، الجمهور على أنه قسم آخر، وقال الحسن: الثانية نفي، أي: أُقسم بيوم القيامة لا بالنفس اللوّامة، فيكون ذمًّا لها، وعلى أنه قسم يكون مدحاً لها، أي: أقسم بالنفس المتقية، التي تلوم صاحبها على التقصير، وإن اجتهدت في الطاعة. أو: بالنفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمّارة، وقيل: المراد الجنس، لِما رُوي أنه عليه السلام قال: " مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ ولا فَاجِرَةٍ إِلاَّ وتلُومُ نفسها يوم القِيامَة، إنْ عَملت خَيْراً، قالت: كيف لم أزدْ؟! وإِنْ عملت شرًّا, قالت: ليتني كُنتُ قصرتُ" . وذكره الثعلبي من كلام البراء: قال أبو السعود: ولا يخفى ضعفه؛ لأنِّ هذا القدر من اللوم لا يكون مدراراً للإعظام بالإقسام، وإن صدَر عن النفس المؤمنة المحسنة، فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس، وقيل: بنفس آدم عليه السلام, فإنها لا تزال تتلوَّم على فعلها الذي خرجت به من الجنة.
وجواب القسم: لتُبعثنّ، دليله: { أيَحْسَبُ الإِنسانُ } أي: الكافر المنكرِ للبعث { ألَّن نجمعَ عِظامه } بعد تفرّقها ورجوعها عظاماً رفاتاً مختلطاً بالتراب، أو: نسفَتْها الرياح وطيَّرتها في أقطار الأرض، أو: ألقتها في البحار. وقيل: إنَّ عَدِيّ بن ربيعة، خَتنَ الأخنس بن شريق، وهما اللذان قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم اكفني جارَيْ السوء، عَدياً والأخنس" قال ـ عَدِيّ ـ: يا محمد، حدِّثنا عن يوم القيامة متى يكون، وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره عليه السلام، فقال: يا محمد؛ لو عاينتُ ذلك لم أصدقك، ولم أُومِنْ بك، أَوَيجمعُ الله هذه العظام؟ فنزلت. { بلى } أي: نجمعها حال كوننا { قادرين على أن نُسَوّي بنانه } أي: أصابعه كما كانت في الدنيا بلا انفصال ولا تفاوت مع صغرها، فكيف بكبار العِظام؟! { بل يريد الإِنسانُ لِيَفجُر أمامه }: عطف على { أيحسب } إمّا على أنه استفهام توبيخي، أضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا، أو: على أنه إيجاب انتقل إليه عن الاستفهام، أي: بل يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات،وما يستقبله من الزمان، لا يرعوي عنه.
قال القشيري: { لِيفجُر أمامه } أي: يعزم على أنه يستكثر من معاصيه في مستأنف وقته، ولا يحلّ عقدةَ الإصرار من قلبه، فلا تصحّ توبتُه؛ لأنّ التوبة من شرطها: العزم على أن لا يعودَ إلى مثل ما عَمِل، فإذا كان استحلى الزلّة في قلبه، وتفكّر في الرجوع إلى مثله فلا تصح ندامتُه. هـ. وقيل: { ليفجُرَ أَمامَه } أي: يكفر بما قُدامه، ويدل على هذا قوله: { يسأل أيَّانَ يومُ القيامةِ } أي: متى يكون؟ استبعاداً واستهزاءً.
{ فإِذا بَرِقَ البصرُ } أي: تحيَّر، من: برق الرجل: إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، وقرأ نافع بفتح الراء، وهي لغة، أو من البريق، بمعنى لمع من شدة شخوصه، { وخَسَفَ القمرُ }؛ ذهب ضوؤه أو غاب، من قوله: { فَخَسَفْنَا بِهِ } [القصص:81] وقرىء: خُسف، بضم الخاء. { وجُمعَ الشمسُ والقمرُ } أي: جُمع بينهما، ثم يُكوّران ويُقذفان في النار، أو يُجمعان أسودين مكورين، كأنهما ثوران عقِيران. وفي قراءة عبد الله: " وجمع بين الشمس والقمر ". وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة، ثم يقذفان في البحر, فيكونان نار الله الكبرى، أو: جمع بينهما في الطلوع من المغرب. { يقول الإِنسانُ يومَئذٍ } أي: حين تقع هذه الأمور العظام: { أين المفَرُّ } أي: الفرار من النار، يائساً منه، والمراد بالإنسان: الكافر، أو: الجنس، لشدة الهول. قال القشيري: وذلك حين تُقاد جهنم بسبعين ألف سلسلة، كل سلسلة بيد سبعين ألف مَلَك، فيقول الإنسان: أين المفر؟ فيقال: لا مهرب من قضاء الله، "إلى ربك يومئذ المستقر"، أي: لا محيد عن حكمه. هـ. والمفر: مصدر، وقرأ الحسن بكسر الفاء، فيحتمل المكان أو المصدر.
{ كلاَّ }؛ ردعٌ عن طلب المفرّ وتمنِّيه، { لا وَزرَ }؛ لا ملجأ ولا حصن، وأصل الوَزر: الجبل الذي يمتنع فيه. قال السدي: كانوا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال، فقال تعالى: لا جبل يعصمكم يومئذ مني، { إِلى ربك يومئذ المستقَرُّ } أي: إليه خاصة استقرار العباد, ومنتهى سيرهم، أو: إلى حُكمه استقرار أمرهم، أو: إلى مشيئته موضع قرارهم، يُدخل مَن يشاء الجَنة ومَن يشاء النار، { يُنبّأُ الإِنسانُ يومئذٍ } أي: يُخبر كل امرىء، برًّا كان أو فاجراً، عند وزن الأعمال { بما قَدَّم } من عمله خيراً كان أو شرًّا، فيُثاب على الأول، ويُعَاقب على الثاني، { وما أخَّرَ } أي: لم يعمله خيراً كان أو شرًّا، فيُعاقب بالأول ويثاب على الثاني، أو: بما قدّم من حسنة أو سيئة قبل موته، وبما أَخَّرَ من حسنة أو سيئة سَنَّها فعُمل بها بعد موته، أو: بما قدّم في أول عمره، وأخَّرَ عمله في آخر عمره، أو: بما قَدَّم من أمواله أمامه، وأخَّرَ آخره لورثته، نظيره. { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } [الانفطار:5].
{ بل الإِنسانُ على نفسِهِ بصيرةٌ } أي: شاهِدٌ بما صدر عنه من الأعمال السيئة، كما يُعرب عنه التعبير بـ"على" وما سيأتي من الجملة الحالية، والتاء للمبالغة، كعلاّمة، أو: أنّثه لأنه أراد به جوارحه؛ إذ هي التي تشهد عليه، أو: هو حُجّة على نفسه، والبصيرة: الحُجة، قال الله تعالى: { { قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِكُمْ } [الأنعام:104] وتقول لغيرك: أنت حُجّة على نفسك. ومعنى "بل": الترقي، أي: يُنبأ الإنسان بأعماله، بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله، شاهد على نفسه، لأنّ جوارحه تنطق بذلك. و"بصيرة": مبتدأ، و"على نفسه": خبر مقدّم، والجملة: خبر "الإنسان"، { ولو أَلْقَى معاذِيرَه }: حال من الضمير في "بصيرة"، أو: من مرفوع (ينبأ) أي: ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه أي: هو بصيرة على نفسه، تشهد عليه جوارحُه، ويُعمل بشهادتها، ولو اعتذر بكل معذرة، أو يُنبأ بأعماله ولو اعتذر..الخ. والمعاذير: اسم جمع للمعذرة، كالمناكير اسم جمع للمنكَر، لا جمع؛ لأنّ جمعها معاذِر بالقصر، وقيل: جمع "مِعْذار" وهو: الستر، أي: ولو أرخى ستوره. وقيل: الجملة استئنافية، أي: لو ألقى معاذيره ما قُبلت منه، لأنَّ عليه مَن يُكذِّب عُذره، وهي جوارحه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد قرن الله تعالى قسَمَه بالنفس اللوّامة بِقسَمِه بيوم القيامة، لمشاركتها له في التعظيم، بل النفس اللوَّامة أعظم رتبة عند الله، لأنها تكون لوّامة تلوم صاحبها على القبائح، ثم تكون لهَّامة تُلهمه الخيرات والعلوم اللدنية، ثم تكون مطمئنة، حين تطمئن بشهود الحق بلا واسطة، بل تستدل بالله على غيره، فلا ترى سواه، فحينئذ ترجع إلى أصلها، وتُرجع الأشياء كلها إلى أصولها، وهو القِدَم والأبد، فيتلاشى الحادث ويبقى القديم وحده، كما كان وحده. فالنفوس أربعة: أمّارة، ولوّامة، ولهّامة، ومطمئنة، وهي في الحقيقة نفس واحدة، تتطور وتتقلب من حال إلى حال، باعتبار التخلية والتحلية، والترقية والتردية, فأصلها الروح، فلما تظلّمت سميت نفساً أمّارة, ثم لوّامة، ثم لهّامة، ثم مطمئنة.
قال القشيري: أيحسب الإنسان، أي: الإنسان المحجوب بنفسه وهواه، ألَّن نجمع عِظامه؛ أعماله الحسنة والسيئة، بلى قادرين على أن نُسَوِّي بنانه، أي: صغار أفعاله الحسنة والسيئة، بل يُريد الإنسان المحجوب لِيَفْجُرَ أمامه، بحسب الاعتقاد والنية، قبل الإتيان بالفعل، أي: يعزم على المعاصي في المستقبل قبل أن يفعل، يسأل أيَّان يوم القيامة؟ لطول أمله، ونسيان آخرته، ولو فُتحت بصيرتُه لَشَاهد القيامة في كل ساعة ولحظة، بتعاقب تجلي الإفناء والإبقاء. فإذا بَرِقَ البصرُ: تحيّر من سطوات أشعة سبحات التجلِّي الأحدي الجمعي، وخسَف القمر, أي: ستر نور قمر القلب بنور شمس الروح، وجُمع الشمس والقمر، أي: جُمع شمس الروح وقمر القلب، بالتجلِّي الأحدي الجمعي، يعني: فيغيب نور قمر الإيمان في شعاع شمس العرفان، يقول الإنسان يومئذ: أين المفر؟ من خوف الاضمحلال والاستهلاك، وليس عنده حينئذ قوة التمكين فيخاف من الاصطلام، إلى ربك يومئذ المستقر بالرسوخ والتمكين، بعد الفرار إلى الله، قال تعالى: { فَفِرُّوا إِلَى اللهِ } [الذاريات:50]. هـ. بالمعنى.
يُنبأ الإنسانُ يومئذٍ بما قَدَّم من المجاهدة، حيث يرى ثمرتها، وما أَخَّرَ، حيث يرى شؤم تفريطه فيها، فالمشاهدة على قدر المجاهدة، فبقدر ما يُقَدِّم منها تعظم مشاهدته، وبقدر ما يُؤخِّر منها تَقِلّ. بل الإنسان على نفسه بصيرة، يرى ما ينقص من قلبه وما يزيد فيه، ويشعر بضعفه وقوته، إن صحّت بصيرته، وطهرت سريرته، فإذا فرط في حال سيره لا يقبل عذره، ولو ألقى معاذيره. وبالله التوفيق.
ولَمَّا كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل الوحي يتلقاه من جبريل قبل أن يقضي نزوله، فإذا قرأ عليه جبريلُ لم يفرغ من الآية حتى يقرأها النبيُّ صلى الله عليه وسلم مخافة أن يتفلّت من صدره، فنزل قوله تعالى: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }.