التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٤
-الأنفال

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله } أي: أجيبوا فيما دعاكم إليه، { وللرسول } فيما دلكم عليه من الطاعة والإحسان، { إذا دعاكم لما يُحييكم } من العلوم الدينية؛ فإنها حياة القلب، كما أن الجهل موته، أو { إذا دعاكم لما يُحييكم } الحياة الأبدية، في النعيم الدائم، من العقائد والأعمال، أو من الجهاد، فإنه سبب بقائكم؛ إذ تركتموه لغلبكم العدو وقتلكم، أو الشهادة، لقوله تعالى: { { أَحيَاءُ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ } [آل عمران: 169]، ووحد الضمير في قوله: { إذا دعاكم } باعتبار ما ذكر، أو لأن دعوة الله تُسمع من الرسول.
وفي البخاري: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أبيّ بْنَ كَعْبٍ، وهو في الصَّلاة، فلم يجب، فلما فرغ أجاب، فقال له صلى الله عليه وسلم:
"ما مَنَعَكَ أن تجيبني" ؟ فقال: كُنْتُ أُصلّي، فقال: " أَلمْ تَسْمَعَ قوله:{ استَجِيتُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول }" فاختلف فيه العلماء، فقيل لأن إجابته صلى الله عليه وسلم لا تقطع الصلاة، فيُجيب، ويبقى على صلاته، وقيل: إن دعاءه كان لأمر لا يقبل التأخير، وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله، كإنقاذ أعمى وشبهه.
ثم قال تعالى: { واعلموا أنَّ الله يَحُولُ بين المرء وقلبه }؛ فينقله من الإيمان إلى الكفر، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن اليقين إلى الشك ومن الشك إلى اليقين، ومن الصفاء إلى الكدر، ومن الكدر إلى الصفاء. وقيل البيضاوي: هو تمثيل لغاية قربه من العبد؛ كقوله تعالى:
{ { وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ } [ق: 16]، وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب، مما عسى أن يغفل عنها صاحبها، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها، قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه؛ فيفسخ عزائمه، ويغير مقاصده، ويحول بينه وبين الكفر، إن أراد سعادته، وبينه وبين الإيمان، إن قضى شقاوته. هـ. { و } اعلموا أيضاً { أنه إليه تُحشرون }؛ فيجازيكم بأعمالكم وعقائدكم.
الإشارة: قد جعل الله، من فضله ورحمته، في كل زمان وعصر، دعاة يدعون الناس إلى ما تحيا به قلوبهم، حتى تصلح لدخول حضرة محبوبهم، فهم خلفاء عن الله ورسوله، فمن استجاب لهم وصحبهم حيي قلبه، وتطهر سره ولبه، ومن تنكب عنهم ماتت روحه في أودية الخواطر والأوهام.
وقوله تعالى: { واعلموا أن الله يَحُولُ بين المرء وقلبه }؛ حيلولة الحق تعالى بين المرء وهو تغطيته وحجبه عن شهود أسرار ذاته وأنوار صفاته، بالوقوف مع الحس، وشهود الفرق بلا جمع، ويعبر عنه أهل الفن بفَقْد القلب، فإذا قال أحدهم: فقدتُ قلبي، فمعناه: أنه رجع لشهود حسه ووجود نفسه، ووجدان القلب هو احتضاره بشهود معاني أسرار الذات وأنوار الصفات، فيغيب عن نفسه وحسه، وعن سائر الأكوان الحسية، وفقدان القلب يكون بسبب سوء الأدب، وقد يكون بلا سبب؛ اختباراً من الحق تعالى، هل يفزع إليه في فقدان أو يبقى مع حاله.
وقد تكلم الغزالي على القلب فقال، في أول شرح عجائب القلب من الإحياء: إن المطيع بالحقيقة لله هو القلب، وهو العالم بالله، وهو الساعي إلى الله، والمتقرب إليه، المكاشف بما عند الله ولديه، وإنما الجوارح أتباع، والقلب هو المقبول عند الله، إذا سَلِمَ من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقاً في غير الله وهو المطالب والمخاطب، وهو المعاتب والمعاقب، وهو الذي يسعد بالقرب من الله، فيفلح إذا زكاه، ويخيب ويشقى إذا دنسه ودساه. ثم قال: وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، وإذا جهله فقد جهل نفسه، وإذا جهل نفسه، جهل ربه، ومن جهل قلبه فهو لغيره أجهل، وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدته ومراقبته، ومعرفة صفاته، وكيفية تقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن، إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين، ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه، ويترصد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه، فهو ممن قال الله تعالى فيهم:
{ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم } [الحشر: 19] الآية.هـ.
وقد أنشد من وجد قلبه، وعرف ربه، وغنى بما وجد، فقال:

أَنَا القُرآنُ والسَّبْعُ المَثَانِي وروحُ الرُّوح لا روح الأَوَاني
فؤادي عند معلوم مقيم تناجيه وعندكم لساني
فَلاَ نَنْظُرْ بِطَرْفِكَ نَحْوَ جِسْمِي وعُدْ عن التنعيم الأواني
فأَسْرارِي تراءت مبهمات مُسَتَّرَةً بأَنْوار المَعَاني
فَمَنْ فَهِمَ الإشَارَةَ فليَصُنْها وإلاّ سوف يقتل بالسنانِ
كَحَلاَّج المحبة إذْ تبدَّتْ له شمسُ الحقيقة بالتداني

ومن أسباب تشتت القلب وفقده دخولُ الفتنة عليه، الذي أشار أليه بقوله: { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ }.