التفاسير

< >
عرض

إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ
١
وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ
٢
وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ
٣
وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ
٤
وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ
٥
وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ
٦
وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ
٧
وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ
٨
بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ
٩
وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ
١٠
وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ
١١
وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ
١٢
وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ
١٣
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ
١٤
-التكوير

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { إِذا الشمسُ كُوِّرتْ } أي: ذُهب بضوئها، من كوَّرت العمامة: إذا لففتها، أي: يُلفّ ضوؤها لفًّا، فيذهب انبساطه وانتشاره، أو: ألقيت عن فلكها، كما وصفت النجوم بالانكدار، من: طعنَة فكوّره: إذا ألقاه على الأرض. وعن أبي صالح: كُوِّرت: نُكّست، وعن ابن عباس رضي الله عنه: تكويرها: إدخالها في العرش. { وإِذا النجومُ انكَدرَتْ } أي: انقضّت وتساقطت، فلا يبقى يومئذٍ نجمٌ إلاّ سقط على الأرض. قال ابن عباس رضي الله عنه: النجوم قناديل معلّقة بسلاسل من نور بين السماء والأرض, بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات مَن في السموات ومَن في الأرض قطعت من أيديهم، وقيل: انكدارها: انطماس نورها، ويُروى: أن الشمس والنجوم تُطرح في جهنم، ليراها مَن عبدها، كما قال: { { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء:98].
{ وإِذا الجبال سُيِّرتْ } عن أماكنها بالرجعة الحاصلة، فتسير عن وجه الأرض حتى تبقى قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتاً. { وإِذا العِشَار } جمع: عُشَرَاء، وهي الناقة التي مرّ على حملها عشرة أشهر، وهو اسمها إلى أن تضع لتمام سنة، وهي أنْفس ما يكون عند أهلها، وأعزّها عليهم، { عُطِّلَتْ }؛ تُركت مهملة؛ لاشتغال أهلها بأنفسهم، وكانوا يحبسونها إذا بلغت هذا الحال، فتركوها أحبّ ما تكون إليهم، لشدة الهول، فيحتمل أن يكون ذلك حقيقة، تُبعث كذلك فيغيبون عنها لشدة الهول، ويحتمل: إن يكون كناية عن شدة الأمر. { وإِذا الوحوشُ حُشِرت } أي: جُمعت من كل جانب، وقيل: بُعثت للقصاص، قال قتادة: يُحشر كلُّ شيءٍ حتى الذباب للقصاص، فإذا قضى بينها رُدّت تراباً، فلا يبقى منها إلاّ ما فيه سرور لبني آدم، كالطاووس ونحوه. { وإِذا البحار سُجّرتْ } أي: أُحميت، أو مُلئت وفُجر بعضها إلى بعض، حتى تصير بحراً واحداً، كما قال تعالى:
{ وَإِذَا ٱلْبِحَارُ فُجِّرَتْ } [الأنفطار:3]، من سَجر التنّور: إذا ملأه بالحطب، وقيل: يُقذف بالكواكب فيها، ثم تُضرم فتصير نيراناً، فمعنى "سُجِّرتْ" حينئذ: قُذف بها في النار, وقد ورد أنّ في النار بحاراً من نار.
{ وإِذا النفوس زُوِّجتْ } أي: قُرنت بأجسادها، أو: قرنت بشكلها، الصالح مع الصالح في الجنة، والطالح مع الطالح في النار، أو: بكتابها، أو بعملها، أو: نفوس المؤمنين بالحُور، ونفوس الكافرين بالشياطين. { وإِذا الموؤدةُ } أي: المدفونة حية، وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق، أو لخوف العار بهم من أجلهن، وقيل: كان الرجل إذا وُلد له بنت ألبسها جبة من صوف أو شعر، حتى إذا بلغت ست سنين ذهب بها إلى الصحراء، وقد حفر لها حفرة، فيلقيها فيها، ويهيل عليها التراب. وقيل: كانت الحامل إذا اقترتب، حفرت حفرة، فتمتخض عليها، فإذا ولدت بنتاً رمت بها، وإذا ولدت ابناً ضَمّته، فإذا كان يوم القيامة { سُئِلَتْ بأيّ ذنبٍ قُتلتْ }، وتوجيه السؤال لها لتسليتها، وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها، وإسقاطه عن درجة الخطاب، والمبالغة في تبكيته. وفيه دليل على أنَّ أطفال المشركين لا يُعذّبون، وأنَّ التعذيب لا يكون بغير ذنب.
{ وإِذا الصُحفُ نُشِرَتْ } أي: صُحف الأعمال، فإنها تُطوى عند الموت وتُنشر عند الحساب، قال صلى الله عليه وسلم:
" يُحشرُ الناس يوم القيامةِ حُفَاةً عراة " فقالت أمُ سلمة: فكيف بالنساء؟! فقال: " شُغِل الناسُ يا أم سلمة " فقالت: وما شغلهم؟ فقال: " نَشْرُ الصُّحُفِ، فيها مثاقيلُ الذرِّ، ومثاقيلِ الخَرْدل " . وقيل: نُشرت: فُرقت على أصحابها، وعن مرثد بن وَداعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصُحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية، وتقع صحيفة الكافرين في يده في سموم وحميم، أي: مكتوب فيها ذلك، وهذه صحف غير الأعمال.
{ وإِذا السماءُ كُشِطَتْ }، قُطعت وأزيلت، كما يُكشط الجلد عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء المستور، { وإِذا الجحيمُ سُعِّرتْ } أي: أوقدت إيقاداً شديداً، غضباً على العصاة، { وإِذا الجنة أُزْلِفَتْ } أي: قُربت من المتقين، كقوله تعالى:
{ وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [قَ:31].
عن ابن عباس رضي الله عنه: إن هذه ثِنتا عشرة خصلة، ستٌّ في الدنيا، فيما بين النفختين، وهن من أول السورة إلى قوله تعالى: { وإذا البحار سُجرتْ } على أنَّ المراد بحشر الوحوش: جمعها من كل ناحية، لا حشرها للقصاص، وستٌّ في الآخرة، أي: بعد النفخة الثانية. والمشهور من أخبار البعث: أنَّ تلك الخصال كلها بعد البعث، فإنَّ الشمس تدنو من الناس في الحشر، فإذا فرغ من الحساب كُوِّرت، والنجوم إنما تسقط بعد انشقاق السماء وطيها، وأمّا الجبال ففيها اختلاف حسبما تقدّم، وأمّا العِشار فلا يتصور إهمالها إلاَّ بعد بعث أهلها.
وقوله تعالى: { علمتْ نفس ما أحضرت }: جواب "إذا"، على أنَّ المراد زمان واحد ممتد، يسع ما في سياقها وسياق ما عطف عليها من الخصال، مبدؤه، النفخة الأولى، ومنتهاه: فصل القضاء بين الخلائق، أي: تيقنت كلُّ نفس ما أحضرت من أعمال الخير والشر، والمراد بحضورها: إمّا حضور صحائفها، كما يُعرب عنه نشرُها، وإمّا حضور أنفسها، على أنها تُشكّل بصورة مناسبة لها في الحُسن والقُبح، وعلى ذلك حمل قوله تعالى:
{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [التوبة:49، العنكبوت:54]، وقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَى... } [النساء:10]، الآية، وقوله عليه السلام في حق مَن يشرب في آنية الذهب: " "إنما يُجَرْجرُ في بطنه نار جهنم " ولا بُعد في ذلك، ألا ترى أنَّ العِلم يظهر في عالم الخيال على صورة اللبن، كما لا يخفى على مَن له خبرة بأحوال الحضرات الخمس، وقد رُوي عن عباس رضي الله عنه أنه قال: "يُؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة، فتوضع في الميزان"، وأيًّا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله عزّ وجل، كما نطق به قوله تعالى: { { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً.. } [آل عمران:30] الآية؛ لأنها لمّا عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف، ومعنى علمها بها حنيئذ: أنها تُشاهد جزاءها، خيراً كان أو شرًّا.
الإشارة: اعلم أنَّ النفس والروح والسر أسماء لمسمَّى واحد، وهو اللطيفة اللاهوتية السارية في الأبدان، فما دامت تميل إلى المخالفة والهوى سُميت نفساً، فإذا تطهرت بالتقوى الكاملة سُميت روحاً فإذا تزكّت وأشرقت عليها أسرار الذات سُميت سرًّا، فالإشارة في قوله: { إذا الشمس كُورت } إلى تكوير النفس وطيها، حين انتقلت إلى مرتبة الروح، وإذا النجوم: نجوم علم الرسوم، انكدرت حين أشرقت عليها شمس العرفان، فلم يبقَ منها للعارف إلاّ ما يحتاج إليه من إقامة رسم العبودية، يعني يقع الاستغناء عنها، فإذا تنزل إليها حققها أكثر من غيره، إذا الجبال؛ جبال العقل، سُيرت؛ لأنّ نوره ضعيف كنور القمر مع طلوع الشمس، وإذا العِشارُ عُطلتْ، أي: النفوس الحاملة أثقال الأعمال والأحوال، وأعباء التدبير والاختيار، فيقع الغيبة عنها بأثقالها, وإذا الوحوش، أي: الخواطر الردية حُشرتْ وغرقتْ في بحر الأحدية، وإذا البحارُ بحار الأحدية سُجرتْ، أي: فُجرت وانطبقت على الوجود، فصارت بحراً واحداً متصلاً أوله بآخره، وظاهره بباطنه، وإذا النفوس، أي: الأرواح، زُوجتْ بعرائس المعرفة في البقاء بعد الفناء، على سُرر التقريب والاجتباء. وقال سهل: تآلفت نفس الطبع مع نفس الروح، ففرحت في نعيم الجنة، كما كانتا متآلفتين في الدنيا على إدامة الذكر. هـ.
وإذا الموؤودة سُئِلَتْ بأيّ ذنبٍ قُتلتْ، أي: فكرة القلوب التي عطلت وأُميتت بحب الدنيا والفناء فيها، حتى انصرفت إلى التفكُّر في خوضها، وتدبير شؤونها، فتُسأل بأي ذنب قُتلت, حتى تعطّلت فكرتها في أسرار التوحيد؟ وقال القشيري: هي الأعمال المشوبة بالرياء، المخلوطة بالسمعة والهوى. هـ. وإذا الصُحف؛ الواردات الإلهية نُشرتْ على القلوب القدسية، فظهرت أنوارُها على الألسنة بالعلوم اللدنية، وعلى الجوارح بالأخلاق السنية، وإذا السماءُ كُشطتْ، إي سماء الحس تكشطت عن أسرار المعاني، وإذا الجحيم، نار القطيعة، سُعّرتْ لأهل الفرق، وإذا الجنة جنة المعارف، أُزلفت لأهل الجمع والوصال، علمت نفس ما أحضرت من المجاهدة عند كشف أنوار المشاهدة. وبالله التوفيق.
ثم أقسم تعالى على حقيّة القرآن، فقال: { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ }.