التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ
٦
ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ
٧
فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ
٨
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ
٩
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ
١٠
كِرَاماً كَاتِبِينَ
١١
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
١٢
-الانفطار

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { يا أيها الإِنسانُ ما غرّكَ بربك الكريم }؛ أيّ شيءٍ خدعك وجرّأك على عصيانه، وقد علمتَ ما بين يديك من الدواهي التامة، والعواطب الطَامّة، وما سيكون حينئذ من مشاهدة ما قَدَّمتَ من أعمالِك، وما أخّرت؟ والتعرُّض لعنوان كرمه تعالى للإيذان بأنه مما لا يصلح أن يكون مداراً للاغترار، حسبما يغويه الشيطان، ويقول: افعل ما شئتَ فإنَّ ربك كريم، قد تفضّل عليك في الدنيا، وسيفعل مثله في الآخرة، فإنه قياس عقيم، وتمنية باطلة، بل هو مما يُوجب الإقبال على الإيمان والطاعة، والاجتناب عن الكفر والعصيان، كأنه قيل: ما حملك على عصيان ربك، الموصوف بالصفات الزاجرة عنه، الداعية إلى خلافه.
رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لمّا قرأها قال:
"غرَّه جهلُه" وعن عمر رضي الله عنه: غرّه حُمقه، وقال قتادة: غرّه عدوه المسلّط عليه ـ يعني الشيطان ـ وقيل للفضيل: لو أقامك اللهُ تعالى يوم القيامة بين يديه فقال لك: { ما غرَّك بربك الكريم } ماذا كنتَ تقول؟ قال: أقول: ستُورك المرخاة، لأنَّ الكريم هو الستّار وأنشدوا:

يا كـاتِـمَ الذنْـب أّمَا تَسْتَحِـيوالـلّـهُ في الخلــوة رَائِيكَـــا
غَــرَّكَ مِـنْ رَبِّــك إمْهَالُــهوسترُه طـولَ مسَــاوِيـكـــا

وقال مقاتل: غرّه عفو الله حين لم يعجل عليه العقوبة، وقال السدي: غرّه رفق الله به، وقال يحيى بن معاذ: لو أقامني بين يديه، فقال لي: ما غرّك بي؟ لقلتُ: غرّني بك بِرّك سالفاً وآنفاً، وقال آخر: أقول: غرّني حلمك، وقال أبو بكر الورّاق: لو قال لي: ما غرَّك بي؟ لقلتُ: غرّني بك كرم الكريم. وهذا السر في التعبير بالكريم، دون سائر الصفات، كأنه لقَّنه الإجابة حتى يقول: غرّني كرم الكريم، وهكذا قال أبو الفضل العابد: غرّني تقييد تهديدك بالكريم، وقال منصور بن عمّار: لو قيل لي: ما غرّك؟ قلت: ما غرّني إلا ما علمتُه من فضلك على عبادك، وصفحك عنهم. هـ.
{ الذي خَلَقك فَسَوَّاكَ } أي: جعلك مستوي الخلْقِ، سالم الأعضاء مُعَدّة لمنافعها، { فعدلك }؛ فصيّرك معتدلاً متناسب الخَلق, غير متفاوت فيه، ولم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا أحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضه أسود، أو: جعلك معتدلاً تمشي قائماً، لا كالبهائم. وقراءة التخفيف كالتشديد، وقيل: معنى التخفيف: صَرَفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال، فيكون من العدول. { في أيّ صورةٍ ما شاء رَكَّبَك } أي: رَكَّبك في أيّ صورة شاءها من الصور المختلفة، و"ما": مزيدة، و(شاء): صفة لصورة، أي: ركَّبك في أيّ صورة شاءها واختارها من الصور العجيبة الحسنة، كقوله تعالى:
{ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين:4] وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها؛ لأنها بيان لـ"عدلك".
{ كلاَّ }، ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى، وجعله ذريعة إلى الكفر المعاصي، مع كونه موجباً للشكر والطاعة. والإضرابَ في قوله تعالى: { بل تُكذِّبون بالدين } عن جملة مقدّرة ينساق إليها الكلام، كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض: وأنتم لا ترتدعون عن ذلك، بل تجترئون على أقبح من ذلك، وهو تكذيبكم بالجزاء والبعث، أو بدين الإسلام، الذي هو من جملة أحكامه، فلا تُصدقون به، { وإِنَّ عليكم لَحافِظين }: حال مفيدة لبطلان تكذيبهم، وتحقيق ما يُكذِّبون به، أي: تُكذِّبون بالجزاء، والحال أنَّ عليكم مِن قِبلنا لحافظين لأعمالكم، { كِراماً } عندنا { كاتبين } لها، { يعلمون ما تفعلون } من الخير والشر، قليلاً أو كثيراً، ويضبطونه نقيراً أو قطميراً. وفي تعظيم "الكاتبين"، بالثناء عليهم؛ تفخيم لأمر الجزاء، وأنه عند الله من جلائل الأمور، حيث يستعمل فيها هؤلاء الكِرام.
الإشارة: يا أيها الأنسان، ما غرَّك بالله حتى لم تنهض إلى حضرة قدسه؟! غرّه جهله ومتابعة هواه، أو قناعته من ربه, والقناعة من الله حرمان، أو غلطه، ظن أنه كامل وهو ناقص من كل وجهٍ، أو ظنّ أنه واصل، وهو ما رحل عن نفسه قدماً واحداً، ظنّ أنه في أعلى عليين باق في أسفل سافلين، وهذا الغلط هو الذي غَرّ كثيراً من الصالحين، تراموا على مراتب الرجال، وهم في مقام الأطفال، سبب ذلك عدم صُحبتهم للعارفين، ولو صَحِبوا الرجالَ لرأوا أنفسهم في أول قدم مِن الإرادة، وهذا هو الجهل المركّب، جَهلوا، وجهلوا أنهم جاهلون. ثم شوّقه إلى السير إليه بالنظر إلى صورة بشريته، فإنه عدلها في أحسن تقويم، ثم نفخ فيه روحاً قدسية سماوية من روحه القديم، ثم لمّا زجر عن الاغترار لم ينزجروا، بل تمادوا على الغرور، وفعلوا فعل المكذِّب بالبعث والحساب؛ مع أنّ عليهم من الله حفظة كِراماً، يعلمون ما يفعلون، فلم يُراقبوا الله جلّ جلاله، المُطَّلع على سرهم وعلانيتهم، ولم يحتشموا من ملائكته المُطَّلعين على أفعالهم. والله تعالى أعلم.
ثم بيَّن مآل مَن انزجر عن غروره، ومَن لم ينزجر، فقال: { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ }.