التفاسير

< >
عرض

فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ
٩
سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ
١٠
وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى
١١
ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ
١٢
ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا
١٣
قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ
١٤
وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ
١٥
بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
١٦
وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
١٧
إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ
١٨
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ
١٩
-الأعلى

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { فَذَكِّرْ } الناسَ حسبما سَيّرناك له بما يُوحى إليك من الحق الهادي إلى الحق، واهدهم إلى ما فيه سعادتهم الأبدية, كما كنت تفعل، أي: دُم على تذكيرك. وتقييد التذكير لِمَا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طالما كان يُذَكرِّهم ويستفرغ جهده في وعظهم، حرصاً على إيمانهم، فما كان يزيد ذلك لبعضهم إلاَّ نفوراً، فأمر عليه السلام أن يخص الذكر بمظان النفع في الجملة، بأن يكون مَن يُذَكِّره ممن يُرجَى منه التذكُّر، ولا يتعب نفسه في تذكير مَن لا ينفعه ولا يزيده إلاّ عتوًّا ونفوراً، ممن طَبع اللهُ على قلبه، فهو كقوله: { { فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [قَ:45] وقوله تعالى: { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا } [النجم:29] وقيل المعنى: ذَكّر إن نفعت وإن لم تنفع، فحذف المقابل، كقوله: { { تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [النحل:81]، واستبعده ابن جُزي؛ لأنَّ المقصود من الشرط استبعاد إسلامهم، كقوله: عظ زيد إن سمع منك، تريد: إن سماعه بعيد، ونسب هذا ابن عطية لبعض الحُذَّاق، قلت: الأَوْلى حمل الآية على ظاهرها، وأنه لا ينبغي الوعظ إلاّ لمَن تنفعه وتؤثر فيه، وأمّا مَن تحقّق عناده فلا يزيده إلاّ عناداً، والقرائن تكفي في ذلك.
{ سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى }؛ سيتعظ ويقبل التذكرة مَن يخشى الله تعالى { ويَتجنَّبُها } أي: يتأخر عنها ولا يحضرها ولا يقبلها { الأشقى } الذي سبق له الشقاء, أو: أشقى الكفرة لتوغُّله في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم. قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. { الذي يَصْلَى النارَ الكبرى } أي: الطبقة السفلى من طبقات جهنم، وقيل: الكبرى نار جهنم، والصغرى: نار الدنيا، لقوله عليه السلام:
" ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم" ، { ثم لا يموتُ فيها } حتى يستريح { ولا يحيا } حياة تنفعه، و"ثم" للتراخي في مراتب الشدة؛ لأنَّ التردُّد بين الموت والحياة أفظع من الصليِّ.
{ قد أفلحَ } أي: نجا من كل مكروه وظفر بكل ما يرجوه { مَن تَزَكَّى } أي: تطهّر من الكفر المعاصي بتذكيرك ووعظك، { وذَكَرَ اسمَ ربه } بقلبه ولسانه { فصَلَّى }؛ أقام الصلوات الخمس، أو: أفلح مَن زكَّى ماله، وذكر الله في صلاته، كقوله:
{ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [طه:14] فيكون تفعَّل من الزكاة، أو: أفلح مَن تزكّى: أخرج زكاة الفطر, وذكر اسم ربه في طريق خروجه إلى أن يخرج الإمام، فصَلّى صلاةَ العيد، وقد روي هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فتكون الآية مدنية، أو: إخباراً بما سيكون، إذ لم تُشْرَعْ زكاة الفطر، ولا صلاة العيد إلاَّ بالمدينة.
{ بل تُؤْثِرون الحياةَ الدنيا } على الآخرة، فلا تفعلون ما به تفلحون، وهو إضراب عن مُقَدَّر ينساق إليه الكلام، كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح: فلا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية، فتسعون لتحصِيلها, وتشتغلون بذلك عن التزوُّد للأخرة، { والآخرةُ خير وأبقى } أي: خير في نفسها، لنفاسة نعيمها، وخلوصه من شوائب التكدير، وأدوم لا انصرام له ولا تمام. والخطاب للكفرة. بدليل قراءة الغيب، وإيثارها حينئذ: نسيانها بالكلية، والإعراض عنها، أو: للكل، فالمراد بإيثارها: هو ما لا يخلوا الناس منه غالباً، من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي، إلاّ القليل. قال الغزالي: إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان، قَلَّ مَن ينفك عنه، ولذلك قال تعالى: { بل تؤثرون الحياة الدنيا }. وجملة: { والآخرة... } الخ: حال من فاعل { تُؤثرون } مؤكد للتوبيخ والعتاب، أ ي: تؤثرونها على الآخرة والحال أنها خير منها وأبقى، قال بعضهم لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى، لا سيما والأمر بالعكس. هـ.
وقوله تعالى: { إِنَّ هذا لفي الصُحف الأُولى } الإشارة إلى قوله: { قد أفلح مَن تزكّى } إلى قوله: { وأبقى }، قال ابن جزي: الإشارة إلى ما ذكر قبل من الترهيب من الدنيا، والترغيب في الآخرة، أو: إلى ما تضمنته السورة، أو: إلى القرآن، والمعنى: إنه ثابت في كتب الأنبياء المتقدمين. هـ. وقوله تعالى: { صحف إِبراهيمَ وموسى } بدل من "الصُحف الأُولى".
وفي حديث أبي ذر:
"قلت: يا رسول الله: كم كتاباً أنزل اللهُ؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قال: قلت: يا رسول الله: ما كانت صُحف إبراهيم عليه السلام؟ قال: كانت أمثالاً كلها، أيها الملك المسل‍ّط المغرور،إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض, ولكن بعثتك لِتَرُدّ على دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو من كافر. وكان فيها: وعلى العاقل أن تكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يُحاسب فيها نفسه، وساعة يُفكر في صنع الله عزّ وجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألاَّ يكون ظاعناً إلا لثلاث: تزور لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومَن حسب كلامه من عمله قَلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه قلت: يا رسول الله؛ فما كانت صُحف موسى عليه السلام؟ قال: كانت عِبَراً كلها؛ عجبت لمَن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبت لمَن أيقن بالقدر ثم هو ينصب ـ أي يتعب، عجبت لمَن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها ثم اطمأن إليها، وعجبت لمَن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل قلت: يا رسولَ الله؛ وهل في الدنيا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى، مما أنزل الله عليك، قال: نعم، اقرأ يا أبا ذر: { قد أفلح مَن تزكى.. } الآية إلى السورة ثم قال: قلت: يا رسول الله، أوصني. قال: أوصيك بتقوى الله عزّ وجل، فإنه رأس أمرك قلت: زدني، قال: عليك بتلاوة القرآن وذكرِ الله عزّ وجل، فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض قلت: يا رسول الله؛ زدني، قال: إياك وكثرة الضحك، فإنه يُميت القلب، ويذهب بنور الوجه، قلت: يا رسول الله؛ زدني, قال: عليك بالجهاد، فإنه رهبانية أمتي، قلت: يا رسول الله؛ زدني، قال: عليك بالصمت إلاَّ مِن خير، فإنه مطردة للشيطان، وعون لك على أمر دنياك" " هـ.
وعن كعب الأحبار أنه قال: قرأتُ في العشر صحف التي أنزل ا للهُ على موسى عليه السلام سبعة اسطار متصلة، أول سطر منها: مَن أصبح حزيناً على الدنيا أصبح ساخطاً على الله، الثاني: مَن كانت الدنيا أكبر همه نزع اللهُ خوف الآخرة من قلبه، الثالث: مَن شكى مصيبة نزلت به كأنما شكى الله عزّ وجل، الرابع: مَن تواضع لِمَلِك مِن ملوك الدنيا ذهب ثلث دينه، الخامس: مَن لا يبالي من أي الأبواب أتاه رزقه لم يُبال اللهُ من أي أبواب جهنم يدخله ـ يعني من حلال أو حرام، السادس: مَن أتى خطيئَة وهو يضحك دخل النار وهو يبكي، والسابع: مَن جعل حاجته إلى آدمي جعل اللهُ الفقر بين عينيه. هـ.
الإشارة: فَذكِّرْ أيها العارف الدالّ على الله إن نفعت الذكرى؛ إن رجوتَ أو توهمتَ نفع تذكيرك، فإن تحققتَ عدم النفع فلا تتعب نفسك في التذكير، فربما يكون بطالة، كتذكير العدو الحاسد لك، أو المعاند، أو المنهمك في حب الرياسة، فتذكير هؤلاء ضرب في حديد بارد. وينبغي للمذَكِّر أن يكون ذا سياسة وملاطفة، قال تعالى:
{ ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ... } [النحل:125]الخ، والحكمة: هي أن تٌقر كلَّ واحد في حكمته، وتدسه منها إلى ربه، فأهل الرئاسة تقرهم فيها وتدلهم على الشفقة والرحمة بعباد الله، وأهل الدنيا تُقرهم فيها وتدلهم على بَذلها، وأهل العلم تُقرهم في علمهم وتحضهم على الإخلاص وبذل المجهود في نشره، وأهل الفقر تقرهم فيه وتُرغبهم في الصبر... وهكذا، فإن رأيتَ أحداً تشوّف إلى مقام أعلى مما هو فيه فدُلّه عليه، وأهل التذكير لهم عند الله جاه كبير، فأحَبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، كما في الحديث. وفي حديث آخر: " إنَّ أود الأوداء إليَّ مَن يحببني إلى عبادي، ويحبِّب عبادي إليّ، ويمشي في الأرض بالنصيحة" " أو كما قال عليه السلام:
{ سَيذَّكَّر مَن يخشى } أي: ينتفع بتذكيري مَن يخشى الله، وسبقت له العناية، ويتجنّبها الأشقى: أي: ويعرض عنها مَن سبق له الشقاء. قال القشيري: الشقي: مَن يعرف شقاوته، والأشقى: مَن لا يعرف شقاوته، الذي يصلى النار الكبرى، وهي الخذلان والطرد والهجران، والنار الصغرى: تتبع الحظوظ والشهوات. هـ. ثم لا يموت فيها ولا يحيى، أي: لا تموت نفسه عن هذا، ولا تحيا روحه بشهود هؤلاء. قد أفلح مَن تَزَكَّى، أي: فاز بالوصول مَن تطهَّر مِن هوى نفسه، بأن طَهَّر نفسه من المخالفات، وقلبه من الغفلات والدعوات، وروحه من المساكنات إلى الغير، وسره عن الأنانية، بل تُؤثرون الحياة الدنيا عن التوجُّه إلى الحضرة القدسية، والدار الآخرة التي يدوم فيها الشهود خير وأبقى، وهذا الأمر، وهو التزهيد في الدنيا، والتشويق إلى الله، في صُحف الرسل والأنبياء، قال القشيري: لأنَّ التوحيد والوعد والوعيد لا يختلف في الشرائع. هـ. وقال الورتجبي: (إنَّ هذا) أي: الخروج عما سوى الله بنعت التجريد، في صحف إبراهيم، كما قال:
{ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [الأنعام:78] والإقبال على الله، بقوله: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } [الأنعام:79] الخ. وفي صحف موسى: سرعة الشوق إلى جماله والندم على الوقوف في المقامات: بقوله: { تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف:143]. هـ. أي: وبقوله: { { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ } [طه:84]. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.