التفاسير

< >
عرض

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ
٨
لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ
٩
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ
١٠
لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً
١١
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ
١٢
فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ
١٣
وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ
١٤
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ
١٥
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ
١٦
أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
١٧
وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ
١٨
وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ
١٩
وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ
٢٠
-الغاشية

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله في بيان حال أهل الجنة، بعد بيان حال أهل النار، ولم يعطفهم عليهم، بل أتى بالجملة استئنافية؛ إيذاناً بكمال تباين مضمونيهما، فقال: { وجوه يومئذٍ ناعمةٌ } أي: ذات بهجة وحُسن، كقوله تعالى: { { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ (24) } [المطففين:24]، { لسعيها راضية } أي: لأجل سعيها في الدنيا هي راضية في الآخرة بما أعطاها عليه من الثواب الجسيم، أو: رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب، { في جنةٍ عالية } علو المكان أو المقدار، { لا تسمع فيها لاغية } أي: لغو، أو كلمة ذات لغو، أو نفسٌ لاغية، فإنَّ كلام أهل الجنة كله أذكار وحِكم، أو: لا تسمع يا مخاطَب، فيمن بناه للفاعل.
{ فيها عين جاريةٌ } أي: عيون كثيرة تجري مياهها، كقوله:
{ عَلِمَتْ نَفْسٌ } [التكوير:14] أي: كل نفس، { فيها سُررٌ مرفوعة } رفيعة السمْك أو المقدار، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله رَبُّه من المُلك والنعيم، { وأكواب موضوعة } بين أيديهم ليتلذذوا بالرؤية إليها، أو موضوعة على حافات العيون مُعَدّة للشرب، { ونمارقُ }؛ وسائد ومرافق { مصفوفة } بعضها إلى جنب بعض، بعضها مسندة، وبعضها مطروحة، أينما أراد أن يجلس جلس على وسادة، وأستند إلى أخرى، { وزرابيّ } أي: بُسُط فاخرة، جمع "زِرْبيَّة"، { مبثوثةٌ }؛ مبسوطة، أو مُفرّقة في المجالس.
ولمّا أنزل الله هذه الآيات, وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم فسّرها بأنَّ ارتفاع السرير يكون مائة فرسخ، والأكواب الموضوعة لا تدخل تحت حساب، لكثرتها، وطول النمارق كذا، وعرض الزاربيِّ كذا، أنكر المشركون ذلك، وقالوا: كيف يصعد على هذا السرير؟ وكيف تكثر الأكواب هذه الكثرة، وتطول النمارق هذا الطول، وتُبسط الزاربي هذا الانبساط، ولم نشهد ذلك في الدنيا؟! ذكَّرهم الله بقوله: { أفلا ينظرون إِلى الإِبل كيف خُلقت } طويلة عالية، ثم تبرك حتى تُركب؛ ويحمل عليها، ثم تقوم، وكذا السرير يطأطىء للمؤمن كما تطأطىء الإبل حتى يركب عليها، أو: أفلا ينظرون إلى الإبل التي هي نُصب أعينهم، يستعملونها كل حين، كيف خُلقت خلقاً بديعاً معدولاً عن سَنَن سائر الحيوانات، في عظم جثتها وشدّة قوتها، وعجيب هيئاتها اللائقة بتأتي ما يصدر منها من الأفاعيل الشاقة، كالنوْء بالأوقار الثقيلة، وحمل الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة، وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى إنَّ ضمأها ليبلغ العشْر فصاعداً، واكتفائها باليسير، ورعيها كل ما تيسّر من شوك وشجر، وانقيادها إلى كل صغير وكبير، حتى إن فأرة أخذت بزمام ناقة فجرته إلى غارها، فتبعتها الناقة إلى فم الغار. وفي الإبل خصائص أُخر تدل على كمال قدرته تعالى، كالاسترواح مع الحَدَّاء إذا عيت، إلى ما فيها من المنافع من اللحوم والألبان والأوبار والأشعار، وغير ذلك، والظاهر ما قاله الإمام، وتبعه الطيبي، من أنه احتجاج بشواهد قدرته تعالى على فاتحة السورة من مجيء الغاشية، وأنَّ المخبر بها قادر عليها، فيتوافق العقل والنقل. هـ. قاله المحشي.
{ وإِلى السماء كيف رُفعت } رفعاً بعيداً بلا عُمُد ولا مُسَّاك، أو بحيث لا ينالها فَهم ولا إدراك، { وإِلى الجبال } التي ينزلون في أقطارها، وينتفعون بمياهها وأشجارها في رعي تلك الإبل وغيرها { كيف نُصبت } نصباً رصيناً، فهي راسخة لا تميل ولا تميد، { وإِلى الإرض كيف سُطحت } سطحاً بتوطئة وتمهيد وتسوية حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق.
قال الجلال: وفي الآية دليل على أنَّ الأرض سطح لا كرة، كما قال أهل الهيئة، وإن لم ينقض ركناً من أركان الشرع. هـ. وفي ابن عرفة، في قوله تعالى:
{ { يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ... } [الزمر:5] أنَّ الآية تدل على أنَّ السماء كروية, قال: لأنَّ من لوازم تكويرهما تكوير محلهما لاستحالة تعلقهما دون مكان. هـ. وفي الأبي: الذي عليه الأكثر من الحكماء وغيرهم أنَّ السموات والأرض كرتان. هـ.
الإشارة: وجوه يومئذ ناعمة بلذة الشهود والعيان، لأجل سعيها بالمجاهدة، راضية، حيث وصَّلتها إلى صريح المشاهدة، في جنة عالية، جنان المعارف، لا تسمع فيها لاغية؛ لأنَّ أهلها مقدّسون من اللغو والرفث، كلامهم ذكر, وصمتهم فكر، فيها عين جارية من قلوبهم بالعلوم والحِكم، فيها سُرر المقامات مرفوعة، يرتفعون منها إلى المعرفة، وأكواب موضوعة؛ كِيسَان شراب الخمرة، وهي محافل الذكر والمذاكرة، ونمارق مصفوفة، وسائد الرّوح والريحان حيث سقطت عنهم الكلف، ورموا حِملهم على الحي القيوم، وزرابي مبثوثة؛ بُسط الأنس في محل القدس، أفلا يستعملون الكفرة والنظرة، حتى تقيم أرواحهم في الحضرة، فإنَّ الفكرة سِراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له، وهي سير القلب إلى حضرة الرب، فينظرون إلى الإبل كيف خُلقت, فإنه تجلي غريب، وإلى السماء كيف رُفعت به، وإلى الأرض كيف سُطحت من هيبته، وقال: القشيري: الإبل: النفوس الأمّارة، لقوله عليه السلام:
" "الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة" . هـ وإلى الأرواح كيف رُفعت؛ لأنها محل أفكار العارفين، وإلى جبال العقل كيف نُصبت لتمييز الحس من المعنى، والشريعة من الحقيقة، وإلى الأرض البشرية كيف سُطحت، حيث استولت عليها الروحانية، وتصرفت فيها.
ثم حضَّ على التذكير ثانياً، فقال: { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ }.