التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ
١
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ
٢
عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ
٣
تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً
٤
تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ
٥
لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ
٦
لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ
٧
-الغاشية

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { هل أتاك حديثُ الغاشيةِ } أي: قد أتاك، والأحسن: أنه استفهام أُريد به التعجُّب مما في حيّزه، والتشويق إلى استماعه، وأنه من الأحاديث البديعة التي من حقها أن تتناولها الرواية، ويتنافس في تلقيها الوعاة من كل حاضر وباد. والغاشية: الداهية الشديدة التي تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها، من قوله تعالى: { { يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ } [العنكبوت:55] الخ.
ثم فصّل أحوالَ الناس فيها، فقال: { وجوه يومئذٍ خاشعةٌ }، فهو استئناف بياني نشأ عن سؤال من جهته صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل: ما أتاني حديثها فما هو؟ فقال: { وجوه يومئذ } أي: يوم إذ غشيت { خاشعة }؛ ذليلة، لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان، و { وجوه } متبدأ، سوّغه التنويع، و(خاشعة) خبر، و { عاملة ناصبة }: خبران آخران، أي: تعمل أعمالاً شاقة في النار، تتعب فيها مِن جرّ السلاسل والأغلال، والخوض في النار خوض الإبل في الوحل، والصعود والهبوط من تلال النار ووهادها، وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء، والتذّت بها، فهي يومئذ ناصبة منها، { تَصلى } أي: تدخل { ناراً حامية }؛ متناهية في الحر مُدداً طويلة، { تُسْقَى من عينٍ آنيةٍ } أي: من عين ماء متناهية في الحرّ، والتأنيث في هذه الصفات والأفعال راجع إلى الوجوه، والمراد أصحابها، بدليل قوله: { ليس لهم طعامٌ إِلاّ من ضريع }، وهو نبت يقال لِرَطْبِه: الشَّبرِق على وزن زِبْرج، تأكله الإبل رطباً فإذا يبس عافته، وهو الضريع، وهم سمٌّ قاتل، وفي الحديث:
" الضريع شيء في النار، أمرُّ من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشد حَرًّا من النار" ، وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون منه ويذلّون، ويتضرعون إلى الله تعالى طلباً للخلاص منه. وقال أبو الدرداء والحسن: يقبح اللهُ وجوهَ أهل النار يوم القيامة، تشبيهاً بأعمالهم الخسيسة في الدنيا، وإنَّ الله تعالى يُرسل على أهل النار الجوع, حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون، فيُغاثون بالضريع، ثم يَستغيثون فيُغاثون بطعام ذي غُصّة، فيذكرون أنهم كانوا يحيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون، فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من غين آنية شديدة الحر، لا هنيئة ولا مريئة، فكلما أدنوه من وجوههم سلخ جلودَ وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها، قال تعالى: { فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [محمد:15] هـ. والعذاب ألوان، والمعذّبون طبقات؛ فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم آكلة الضريع.. فلا تناقض.
ولمَّا نزلت هذه الآية؛ قال المشركون: إنَّ إبلنا لتسمن من الضريع، فنزلت: { لا يُسمن ولا يُغني من جوع } أي: ليس مِن شأنه الإسمان والإشباع، كما هو شأن طعام أهل الدنيا، وأنما هو شيء يضطرون إلى أكله دفعاً لضرورتهم، والعياذ بالله من سخطه.
الإشارة: الغاشية هي الدنيا، غشيت القلوب بظلمات محبتها، ومودتها بحظوظها وشهواتها، وجوه فيها يومئذ خاشعة، بذُلّ طلبها، عاملة بالليل والنهار في تحصيلها، ناصبة في تدبير شؤونها، لا راحة لطالبها أبداً حتى يأخذ الموت بعُنقه، تصلى نار القطيعة والبُعد تُسقى من عين حر التدبير والاختيار، ليس لطُلابها طعام لقلوبهم وأرواحهم إلاّ من ضريع شبهاتها أو حُرماتها، لا يُسمن القلب عن هزال طلبها، بل كلما زاد منها شيئاً، زاد جوعه إليها، ولا يغني الروح من جوع منها.
ثم ثنَّى بأضدادهم، فقال: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ }.