التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً
٢١
وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً
٢٢
وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ
٢٣
يَقُولُ يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي
٢٤
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
٢٥
وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
٢٦
يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ
٢٧
ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً
٢٨
فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي
٢٩
وَٱدْخُلِي جَنَّتِي
٣٠
-الفجر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { كلا إِذا دُكَّتِ الأرْضُ } أي: زُلزلت { دَكاً دَكاً } أي: دكاً بعد دكّ، أي: كرّر عليها الدكّ حتى صارت هباءً منبثاً، أو قاعاً صفصفاً، { وجاء ربُّك } أي: تجلّى لفصل قضائه بين عباده، وعن ابن عباس: أمره وقضاؤه، { والمَلكُ صفاً صفاً } أي: نزل ملائكة كل سماء فيصفون صفاً بعد صف محدقين بالإنس والجن، { وجيء يومئذٍ بجهنمَ }، قيل: بُرِّزت لأهلها، كقوله: { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) } [الشعراء:91] وقيل: يجاء بها حقيقة، وفي الحديث: " يؤتى بجهنم يومئذٍ، لها سبعونَ ألفَ زمامٍ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجرُّونها، حتى تنصب عن يسار العرش, لها لغيط وزفير" رواه مسلم.
{ يومئذ يتذكّرُ الإِنسانُ } أي: يتّعظ، وهو بدل من (إذا دُكت) والعامل فيه: (يتذكّر) أي: إذا دُكت الأرض ووقع الفصل بين العباد يتذكر الإنسان ما فرّط فيه بمشاهدة جزائه، { وأنَّى له الذِّكْرَى } أي: ومن أين له الذكرى؟ لفوات وقتها في الدنيا، { يقول يا ليتني قدمتُ لحياتي } هذه، وهي حياة الآخرة، أي: يا ليتني قدّمتُ الأعمالَ الصالحة في الدنيا الفانية لحياتي الباقية.
{ فيومئذٍ لا يُعَذِّبُ عذابَه أحدٌ } أي: لا يتولّى عذاب الله أحد؛ لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم، { ولا يُوثِقُ وثاقه أحدٌ }، قال صاحب الكشف: لايُعدَّب بالسلاسل والأغلال أحدٌ كعذاب الله، ولا يوثِق أحدٌ أحداً كوثاق الله. وقرأ الأخوان بفتح الذال والثاء، بالبناء للمفعول، قيل: وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف، وهو الكافر. وقيل: هو أُبيّ بن خلف، أي: لا يُعذِّب أحدٌ مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه؛ لتناهيه في كفره وعناده.
ثم يقول الله تعالى للمؤمن: { يا أيتها النفسُ } يخاطبه تعالى إكراماً له بلا واسطة, أو على لسان ملك، { المطمئنةِ } بوجود الله، أو بذكره، أو بشهوده، الواصلة إلى بَلَج اليقين، بحيث لا يخالطها شك ولا وهم، وقيل: المطمئنة، أي: الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، ويؤيده: قراءة مَن قرأ: يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة. ويقال لها هذا عند البعث، أو عند تمام الحساب، أو عند الموت: { ارجعي إِلى ربك } إلى وعده، أو: إلى إكرامه، { راضيةً } بما أُوتيت من النعيم { مرضيةً } عند الله عزّ وجل، { فادخلي في عبادي } أي: في زمرة عبادي الصالحين المخلصين، وانتظمي في سلكهم، { وادخلي جنتي } معهم. وقال أبو عبيدة: أي: مع عبادي وبين عبادي. أي: خواصّي، كما قال:
{ { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } [النمل:19]. وقيل: المراد بالنفس: الروح، أي: وادخلي في أجساد عبادي، لقراءة ابن مسعود: "في جسد عبادي" ولمّا مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم يُرَ على خلقته, فدخل في نعشه، فلما دُفن تُليت هذه الآية على شفا قبره، ولم يُدْرَ مَن تلاها، وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب, وقيل: في خُبيْب بن عدي، الذي صلبه أهلُ مكة, والمختار: أنها عامة في المؤمنين؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
الإشارة: إذا دُكت أرض الحس، باستيلاء المعنى عليها، أو أرض البشرية، باستيلاء الروحانية عليها، دكاً بعد دكٍّ، بالتدريج والتدريب، حتى يحصل التمكين من أسرار المعاني، وجاء ربك، أي: ظهر وتجلّى للعيان، والملَك صفاً صفاً، أي: وجاءت الملائكة صفوفاً، وجيء يومئذٍ بجهنم، أي: بنار البُعد لأهل الفرق، يومئذ يتذكّر الإنسانُ ما فاته من المجاهدة وصُحبة أهل الجمع، وأنَّى له الذكرى مع إقامته في الفَرْق طول عمره، يقول: يا ليتني قدمتُ لحياتي؛ رُوحي بالمشاهدة بعد المجاهدة، فيومئذٍ يتولى الحق تصرُّفه في عباده بقدرته، فيُعَذِّب أهل الحجاب بسلاسل العلائق والشواغل، ويُقيدهم بقيود البين، ثم يُنادي روح المقربين أهل الأرواح القدسية: يا أيتها النفس المطمئنة، التي اطمأنت بشهود الحق، ودام فناؤها وبقاؤها بالله، ارجعي إلى ربك؛ إلى شهود ربك بعد أن كنت عنه محجوبة، راضية عن الله في الجلال والجمال، مرضية عنده في حضرة الكمال، وعلامة الطمأنينة: أنَّ صاحبها لا ينهزم عند الشدائد وتفاقم الأهوال، لأنَّ مَن كانت يده مع الملك صحيحة لا يبالي بمَن واجهه بالتخويف أو التهديد. وقال الورتجبي: النفس المطمئنة هي التي صدرت مِن نور خطاب الأول الذي أوجدها من العدم بنور القِدم، واطمأنت بالحق وبخطابه ووصاله، فدعاها الله إلى معدنها الأول، وهي التي ما نالت من الأول إلى الآخر غير مشاهدة الله، راضية من الله بالله، مرضية عند الله بالاصطفائية الأزلية. هـ. والنفوس ثلاثة: أمّارة، ولوّامة، ومطمئنة، وزاد بعضهم: اللاّمة. والله تعالى أعلم، صلّى الله على سيدنا محمد وآله.