التفاسير

< >
عرض

لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ
١
وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ
٢
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
٣
لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ
٤
أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
٥
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً
٦
أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ
٧
أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ
٨
وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ
٩
وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ
١٠
-البلد

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { لا أُقسم بهذا البلد }؛ أَقسم تعالى بالبلد الحرام، وما عطف عليه على أنّ الإنسان خُلق مغموراً بمقاساة الشدائد ومعاناة المشاقّ. واعترض بين القسم وجوابه بقوله: { وأنت حِلّ بهذا البلد }، أي: وأنت حالّ ساكن به، فهو حقيق بأن يُقسم به لحلولك به، أو: وأنت حِل، أي: تُستحل حرمتُكَ, ويُؤذيك الكفرةُ مع أنَّ مكة لا يَحل فيها قتل صيد ولا بشر، ولا قطع شجر, وعلى هذا قيل: "لا أٌقسم" نفي، أي: لا أقسم بهذا وأنت تلحقك فيه إذاية، وهذا ضعيف، أو: وأنت حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت مِن قتل كافر وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك، وهذا هو الأظهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " "إنَّ هذا البلد حرام، حرّمه اللهُ يومَ خلق السموات والأرض، لم يَحِلَّ لأحدٍ قبلي، ولا يحل لأحد بعدي، وإنما أُحل لي ساعة من نهارٍ " ، يعني: فتح مكة، وفيه أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خَطَل، وهو متعلّق بأستار الكعبة.
فإن قلتَ: السورة مكية، وفتح مكة كان سنَة ثمان من الهجرة؟ قلتُ: هو وعد بالفتح وبشارة. انظر ابن جزي. وكثير من الآيات نزلت بمكة ولم يتحقق مصداقها إلاّ بعد الهجرة، كقوله تعالى:
{ { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } [فصلت:6، 7] وقوله تعالى: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ } [الأحقاف:10] وغير ذلك.
{ ووالدٍ وما وَلَد } أي: وآدم وجميع ولده، أو نوح وولده، أو إبراهيم وولده، أو إسماعيل ونبينا صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أنه حَرَمُ إبراهيم ومنشأ إسماعيل، ومسكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو محمد صلى الله عليه وسلم وولده، أو جنس كل والد ومولود. { لقد خلقنا الإِنسانَ } أي: جنسه { في كبدٍ }؛ في تعب ومشقة، فإنه لا يزال يُقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها، يُكابد مشاق التعلُّم، ثم مشاق القيام بأمور الدين وأمور معاشه وهموم دنياه وآخرته، ثم يكابد نزع روحه، ثم سؤاله في قبره, ثم تعب حشره، ومقاساة شدائد حسابه، ثم مروره على الصراط، فلا راحة له إلاّ بعد دخول الجنة لتكون حلوة عنده، هذا في عموم الناس، وأمّا خواص العارفين فقد استراحوا حين وصلوا إلى معرفة الحق، فأسقطوا عنهم الأحمال؛ لتحققهم أنهم محمولون بالقدرة الأزلية، فلما أَسقطوا حِمْلَهم قام الله بأمرهم، لقوله:
{ { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق:3]، يقال: كَبِدَ الرجل كَبَداً: إذا وجعت كبده من مرض أو تعب.
{ أَيَحْسَبُ أن لَّن يَقْدِر عليه أَحدٌ } أي: أيظن الإنسان الكافر أن لن يقدر على بعثه أحد، أو: أيظن بعض الإنسان ألن يغلبه أحدٌ، فعلى هذا نزلت في مُعَيّن, قيل: هو أبو الأشدّين الجمحي، رجل من قريش كان شديد القوة، مغترًّا بقوته، كان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه، ويقول: مَن أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً، ولا تزال قدماه، وقيل: عَمْرو بن عبد ود، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة، وقتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. { يقولُ أهلكتُ مالاً لُّبَداً } أي: كثيراً، جمع لُبْدَة وهو ما تلبّد بعضه على بعض، يريد كثرة ما أنفقه، مما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي، رياءً وفخراً. { أيَحْسَبُ أن لمْ يَرَه أحدٌ }؟ حين كان ينفق ما ينفق رياءً وسُمعةً، وأنه تعالى لا يُحاسبه ولا يجازيه, يعني: أنَّ الله كان يراه وكان عليه رقيباً فيُجازيه عليه.
ثم ذكر نِعمه عليه، فقال: { ألم نجعل له عينين } يُبصر بهما المرئيات، { ولساناً } يُعَبِّرُ به عما في ضميره، { وشفتين } يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النُطق والأكل والشرب والنفخ وغيرها، { وهديناه النجدين } أي: طريقي الخير والشر المُفضيان إلى الجنة أو النار، فهو كقوله:
{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ... } [الإنسان:3] الآية. وليس المراد بالهدى معنى الإرشاد, بل معنى الإلهام، أو: الثديين، وأصل النجد: المكان المرتفع، ومنه سُميت نجد, لارتفاعها عما انخفض من الحجاز.
الإشارة: أقسم تعالى ببلد المعاني، التي هي أسرار الذات، ووالد، وهو الروح الأعظم وما تولّد منه من الأرواح الجزئيات، لقد خلق الإنسانَ في كبد: في تعب الظاهر والباطن إلاّ مَن رجع إلى أصله، أعني: روحانيًّا قدسيًّا، فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع. قال الكواشي: عن بعضهم: الإنسان في كبد ما دام قائماً بطبعه، واقفاً بحاله، فإنه في ظلمة وبلاء، فإذا فني عن أوصاف إنسانيته، بفناء طبائعه عنه، صار في راحةٍ. هـ.
والحاصل: أنَّ الإنسان كله في تعب إلاَّ مَن عرف الله تعالى معرفة العيان، فإنه في روح وريحان، وجنات ورضوان. أَيَحْسَب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ، فلذلك أتعب نفسه في تدبير شؤونه، بلى نحن قادرون على حَمل حمله إن أسقطه توكلاً علينا. ألم نجعل له عينين، فلينظر بهما مَن حَمل السمواتِ والأرض، أليس ذلك بقادرٍ على حمل أثقاله؟ فليرح نفسه من تعب التدبير، فما قام به عنه غيرُه لا يقوم به هو عن نفسه، وجعلنا له لساناً يشكر به نِعَمَ مولاه، وشفتين يصمت بهما عما لا يعنيه، وهديناه الطريقين؛ الشريعة والحقيقة، فإذا سلكهما وصلناه إلينا.
ثم أمره بالمجاهدة في سلوك الطريق التي تُفضي به إلى راحته، فقال: { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ }.