التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ
٦
أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ
٧
إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ
٨
أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ
٩
عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ
١٠
أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَىٰ ٱلْهُدَىٰ
١١
أَوْ أَمَرَ بِٱلتَّقْوَىٰ
١٢
أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
١٣
أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ
١٤
كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِٱلنَّاصِيَةِ
١٥
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ
١٦
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ
١٧
سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ
١٨
كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب
١٩
-العلق

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { كلاَّ }، هو ردع لمحذوف، دلّ الكلام عليه، كأنه قيل: خلقنا الإنسان من علق، وعلّمته ما لم يعلم ليشكر تلك النعمة الجليلة، فكفر وطغى، كلا لينزجر عن ذلك { إِنَّ الإِنسان ليطغى }؛ يجاوز الحد ويستكبر عن ربه. قيل: هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل بعد زمان، وهو الظاهر. وقوله: { أن رآه استغنى } مفعول له، أي: ليطغى لرؤية نفسه مستغنياً، على أنَّ "استغنى" مفعول لرأى، لأنه بمعنى عَلِم، ولذلك شاع كون فاعله ومفعوله ضميريْ واحد كما في "ظننتني وعَلِمتني" وإن جوّزه بعضهم في الرؤية البصرية أيضاً، وجعل من ذلك قول عائشة رضي الله عنها: "رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا الأسودان، الماء والتمر"، والمشهور أنه خاص بأفعال القلوب. وحاصل الآية: أن سبب طغيان الإنسان هو استغناؤه بالمال، وسبب تواضعه هو فقره.
ثم هدّد الإنسان وحذّره من عاقبة الطغيان، على طريق الالتفات، فقال: { إِنَّ إِلى ربك الرُّجعى } أي: الرجوع, فيجازيك على طغيانك. { أرأيت الذي ينهَى عبداً إِذا صلَّى } أي: أرأيت أبا جهل ينهى محمداً صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، وهو تشنيع بحاله، وتعجيب منها، وإيذان بأنه من البشاعة والغرابة بحيث يراها كل مَن يأتي منه الرؤية. رُوي أنَّ أبا جهل كان في ملأ من قريش، فقال: لئن رأيت محمداً لأطأنّ عنقه، فرأه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فجاءه, ثم نكص على عقبيه، فقالوا: مالك؟ فقال: حال بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة، فنزلت، فقال صلى الله عليه وسلم:
" لو دنا مني لاختطفته الملائكة" .
وتنكير العبد تفخيم لشأنه صلى الله عليه وسلم، والرؤية هنا بصرية، وأمّا في قوله: { أرأيت إن كان على الهدى أو أّمَرَ بالتقوى } وفي قوله: { أرأيتَ إِن كَذَّب وتولَّى } فعلمية، أي: أخبرني فإنَّ الرؤية لمَّا كانت سبباً للإخبار عن المرائي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها. والخطاب لكل مَن يصلح للخطاب.
قال في الكشاف: قوله تعالى: (الذي ينهى) هو المفعول الأول لقوله: (أرأيت) الأول، والجملة الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني، وكررت (أرأيت) بعد ذلك للتأكيد، فلا تحتاج إلى مفعول. وقوله: { ألم يعلم بأنَّ الله يرى } هو جواب قوله: { إن كذَّب وتولى }، وجواب قوله: { إن كان على الهدى } محذوف، يدل عليه جواب قوله: { إن كذَّب وتولى } فهو في المعنى جواب للشرطين معاً. والضمير في قوله: { إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى } للناهي، وهو أبو جهل، وكذا في قوله: { إن كذَّب وتولَّى }، والتقدير على هذا: أخبرني عن الذي ينهى عبداً إذا صلّى إن كان هذا الناهي على الهدى أو إن كَذّب وتولّى، ألم يعلم بأنّ الله يرى جميع أحواله، فمقصود الآية: تهديد له وزجر، وإعلام بأنّ الله يراه. وخالفه ابن عطية في الضمائر، فقال: إنَّ الضمير في قوله: { إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى } للعبد الذي صلَّى، وأنّ الضمير في قوله: { إن كذَّب وتولّى } للناهي، وخالفه في جعل "أرأيت" الثانية مكررة للتأكيد, فقال: "أرأيت" في المواضع الثلاثة توقيف، وأنّ جوابها في المواضع الثلاثة: قوله: { ألم يعلم بأن الله يرى } فإنه يصلح مع كل واحدة منها، ولكنه جاء في آخر الكلام اقتصاراً. انظر ابن جزي. وما قاله ابن عطية أظهر، فكأنه تعالى حاكِمٌ قد حضره الخصمان، يُخاطب هذا مرة والآخر أخرى، وكأنه قال: يا كافر إن كانت صلاته هُدى ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى، ثم أقبل على الآخر، فقال: أرأيت إن كذَّب. الخ.
وقال الغزنوي: جواب { إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى } محذوف، تقديره: أليس هو على الحق واتباعه واجب، يعني: فكيف تنهاه يا مكذّب، متولي عن الهدى، كافر، ألم تعلم أن الله يراك. هـ.
{ كلاَّ }، ردع للناهِي عن عبادة الله { لئن لم ينتهِ } عما هو عليه { لَنَسْفعاً بالناصيةِ }؛ لنأخذن بناصية ولنسحبنّه بها إلى النار. والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدة. وكَتْبُها في المصحف بالألف على حكم الوقف. واكتفى بلام العهد عن الإضافة للعلم بأنها ناصية المذكور، ثم بيّنها بقوله: { ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ } فهي بدل, وإنما صَحّ بدلها من المعرفة لوصفها، ووصفها بالكذب والخطأ على المجاز، وهما لصاحبهما. وفيه من الجزالة ما ليس في قوله: ناصية كاذب خاطىء.
{ فَلْيَدْعُ ناديَه }، النادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم. رُوي أنَّ أبا جهل مرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يُصلّي، فقال: ألم أَنْهكَ؟ فأغلط له النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟ فنزلت. { سَنَدْعُ الزبانية } ليجروه إلى النار. والزبانية: الشُّرَطِ، واحدة: زِبْنِيَّة أو زِبْنى، من الزبن، وهو الدفع. عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" "لَوْ دَعَا نَادِيهُ لأخَذَتْه الزَّبانِيةُ عِياناً" .
{ كلاَّ }، ردع لأبي جهل { لا تُطِعْهُ } أي: أثبت على ما أنت عليه من عصيانه، كقوله: { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } [القلم:8] { واسجدْ }؛ واظب على سجودك وصلاتك غير مكترث { واقترب }؛ وتقرّب بذلك إلى ربك.
الإشارة: كل مَن أنكر على المتوجهين، الذين هم على صلاتهم دائمون، يُقال في حقه: أرأيت الذي يَنهى عبداً إذا صلّى.. إلى آخر الآيات. ويُقال للمتوجه: لا تُطعه واسجد بقلبك وجوارحك، وتقرّب بذلك إلى مولاك، حتى تظفر بالوصول إليه. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.