تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه
قوله: { وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } إلى قوله { بِخَازِنِينَ }.
والمعنى: والأرض مددناها فبسطناها، لأنه قال: في موضع آخر { { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30]. ومن تحت [الـ]ـبيت الحرام دحيت الأرض. { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } أي: في ظهرها جبالاً ثابتة. { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا } أي: في الأرض { مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ }.
وقال ابن عباس "موزون" معلوم. وقال مجاهد: مقدر، أي: لا يزيد على قدرة الله ولا ينقص كأنه موزون. وقال عكرمة: مقدور.
وقال ابن زيد: "موزون" عني به الأشياء التي توزن. يعني: ما في الجبال من معادن الذهب والفضة والرصاص وغير ذلك مما يوزن. فكأنه قال: أنبتنا فيها من كل شيء يوزن كالفضة والذهب والحديد والرصاص والزعفران والعُصْفُر وغير ذلك مما يباع بوزن.
ثم قال تعالى: { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ }.
أي: جعلنا لكم في الأرض معايش وجعلنا لكم من لستم له برازقين يعني الإِماءَ والعبيد. فيكون "من" في موضع نصب عطف على المعايش.
وقيل: { مَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } يعني: به الدواب والأنعام، وهو قول مجاهد. و "من" على هذا القول: لما لا يعقل وهو قبيح بعيد.
وقيل: عني به الوحش. و "من" لما لا يعقل أيضاً.
وقيل: "من" في موضع نصب عطف على معنى { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } لأن معناه: أنعشناكم "ومن لستم" أي: وأنعشنا من لستم له برازقين.
وقيل: هي في موضع خفض عطف على لكم، وهو مذهب الكوفيين، ولا يجيزه البصريون.
وقيل: معنى { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } يراد به: العبيد والاماء والدواب والوحش، فلما اجتمع من يعقل، وما لا يعقل، غلب من يعقل فأتى بمن. وهذا القول: حسن، ويكون "من" في موضع نصب حملاً على المعنى على ما تقدم.
وقيل: المعنى جعلنا لكم في الأرض معايش بزرعها وثمارها، وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين، يعني: البهائم التي تؤكل لحمها ويعاش منها، ويعني: ما ينتفع به من البهائم مما لا يؤكل / لحمها، كل قد جعله الله لبني آدم في الأرض رفقاً بهم ونعماً عليهم وفضلاً.
ثم قال تعالى: { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } الآية والمعنى: وما شيء من الأمطار إلا عندنا خزائنه. { وَمَا نُنَزِّلُهُ } يعني: المطر { إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } أي: ينزل إلى كل أرض حقها الذي قدر الله لها. وليس أرض أكثر من أرض ولا عام أكثر مطراً من عام، ولكن الله يقسمه كيف يشاء، عاماً هنا وعاماً هنا. ويمطر قوماً ويحرم قوماً، وربما كان في البحر. وروي أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحضرون كل قطرة حيث تقع وما تنبت.
وقيل: معنى "عندنا خزائنه" أي: نملكه ونقدر عليه ونصرفه حيث نشاء وكيف نشاء.
ثم قال تعالى: { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ }.
[أي: وأرسلنا الرياح] تلقح الشجر والسحاب. وكان الأصل أن يجمع على ملاقح، لأنه جمع ملقحة، من: القحت الريح الشجر. فاللاقح هي الشجر والسحاب كما يقال: ناقة لاقح. والملقح هي الريح، ولكن جمع على حذف الزيادة، فكأنه جمع لاقحاً. وأكثر ما يقع حذف الزيادة في الشعر.
وقال بعض الكوفيين: وصفت الريح باللقح وهي تلقح، كما يقال: ليل نائم، وإنما النوم فيه.
وقيل: لما كانت الريح تلقح بمرورها على التراب والماء، قيل لها: ريح لاقح، كما يقال: ناقة لاقح.
وقيل: هو موضوع على النسب كأنه قال: ذوات اللقاح، كأنها تلقح السحاب. كما قيل: في التفسير [و] هذا قول: أبي عمرو.
وقيل: لواقح جمع لاقح، أي حامل. سميت الريح لاقحاً لأنها تلقح السحاب، والعرب تقول: للجنوب لاقح وحامل وللشمال حائل وعقيم، وقد قال الله عز وجل { حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً } [الأعراف: 57]. وأقلت: معناه: حملت.
فأما من وحد الريح، ووصفه بلواقح فهو حسن لأنه موحد يراد به الجمع، قال الله [تعالى] { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } [الحاقة: 17] يريد "والملائكة".
وقال ابن مسعود في الآية: يرسل الله الريح فتحمل الماء فتمري السحاب فيدر [كما تدر] اللقحة، ثم تمطر. قال قتادة: "لواقح" تلقح الماء في السحاب .
وقال النخعي والحسن: لواقح تلقح السحاب.
وقال عبيد بن عمير: يبعث الله الريح المبشرة فَتَقُمُّ الأرض قماً، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث المُؤَلَّفَةَ فتؤلف السحاب ثم يبعث اللقوح فتلقح الشجر.
وقال الضحاك: يبعث الله الريح على السحاب فتلقحـ[ـه] فيمتلئ ماء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح. وهي التي ذكر الله في كتابه، وفيها منافع للناس".
وقيل: الريح اللاقح، هي: التي تحمل الندى، ثم تمجه في ماء السحاب. فإذا اجتمع فيه صار مطراً بإذن الله [عز وجل]، وبسبب تلقيحها السحاب تلقح الأشجار.
والـ[ـلـ]ـواقح في جميع ذلك بمعنى ملاقح، لأنه من القحت الريح السحاب والشجر ولكنه جمع على حذف الزيادة على ما ذكرنا.
ثم قال تعالى: { فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ / مَاءً }.
أي مطراً { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } أي أسقينا به أرضكم ومواشيكم. ولو كان لشربهم لقال: "فسقيناكموه". تقول [العرب] إذا سقت الرجل ماء فشربه: سقيته، فإن كان لشرب أرضه وماشيته قالوا: [أ]سقيته. وكذلك [ان] ا[ستـ]ـسقيت له غيرك أن يسقيه قلت "اسقيته.
قوله { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }.
أي: لستم تخزنون هذا الماء فتمنعونه من أحد، بل ذلك بيد الله يسقيه من يشاء ويمنعه ممن يشاء. وقال سفيان: "بخازنين" بما نعين.