التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
١١٣
فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
١١٤
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلْدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٥
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ
١١٦
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١١٧
وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
١١٨
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٩
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٢٠
شَاكِراً لأَنْعُمِهِ ٱجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٢١
وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٢٢
-النحل

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ } إلى قوله: { لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ }.
أي: ولقد جاء أهل هذه القرية، يعني مكة، { رَسُولٌ مِّنْهُمْ } أي: من أنفسهم يعرفونه ويعرفون نسبه وصدق لهجته فدعاهم إلى الحق { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ } وهو: لباس الجوع والخوف، وقتلهم يوم بدر بالسيف { وَهُمْ ظَالِمُونَ } أي: مشركون.
ثم قال [تعالى]: { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً }.
أي: فكلوا من الأنعام التي رزقكم الله حلالاً، أي: مذكاة على اسم الله ولا تَحرِّموها كما حَرَّمَتِ العرب الوصائل والسوائب والحامي وغير ذلك { وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ } أي: واشكروه على ما خلق لكم من ذلك، وما أحل لكم من أكله على غيره من النعم { إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي: تطيعون.
وقيل: إنما عني بقوله: { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } الآية: المشركين وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لحقته رقة في أيام القحط فوجه إليهم طعاماً يرتفقون به، فأمرهم الله بأكله وبالشكر عليه إن كانوا يعبدون الله.
والقول الأول: [أولى] لأن بعده: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ } وهذا إنما هو مخاطبة للمؤمنين بلا اختلاف.
ثم قال تعالى: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلْدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخَنْزِيرِ }.
أي: إنما حرم عليكم ما مات من النعم حتف أنفه، والدم السائل وهو المسفوح، ولحم الخنزير { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } أي: ما ذبح للأنصاب وسمي عليه غير الله، فمن اضطر إلى شيء من ذلك في مخمصة وهي: المجاعة. حل له.
وقوله: { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ }.
أي: باغ في أكله، { وَلاَ عَادٍ } أي: لا يتعدى حلالاً إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة. { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ [رَّحِيمٌ] } أي: ساتر عليه ذنبه فلا يؤاخذه رحيم به أن يعاقبه على ذلك، وقد تقدم تفسير { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } في البقرة بأبين من هذا.
ثم قال [تعالى]: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ }.
قرأ الحسن والأعرج وطلحة وأبو معمر: "الكَذِبِ" بالخفض على أنه نعت لما، أو بدل منه. ومن نصب جعله مفعولاً بتصف. وقرأ بعض أهل الشام: "الكُذُبُ" بضم الكاف والذال والباء، نعت للألسنة، جمع كذوب، مثل: شكور، وشكر.
ومعنى الآية: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب فيما رزق الله عباده من المطاعم، هذا حلال وهذا حرام لكي تفتروا على الله الكذب فإنه لم يحرم من ذلك كثيراً مما تحرمون ولا أحل كثيراً مما تحلون. وذلك أن اليهود والمشركين أحلوا الميتة فقال المشركون:
{ مَا فِي بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلأَنْعَٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَٰجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ } [الأنعام: 139] يأكله الرجال والنساء.
ثم قال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ }.
أي: يتخرصونه ويختلقونه { لاَ يُفْلِحُونَ } أي: لا يخلدون في الدنيا ولا يبقون فيها. { مَتَاعٌ قَلِيلٌ } أي: الذي هم فيه من هذه الدنيا متاع قليل.
ثم قال: { وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ }.
أي: وحرمنا يا محمد على اليهود ما قد أنبأناك به في سورة الأنعام. وهي: كل ذي ظفر والشحوم. قاله: عكرمة والحسن وقتادة.
وقوله: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ }.
[أي: وما ظلمناهم] بتحريمنا ذلك [عليهم] { وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }.
ثم قال تعالى: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ }، أي: للذين عصوا الله [سبحانه] فجهلوا ثم راجعوا طاعة الله [عز وجل] والندم على ما عملوا والاستغفار منه { وَأَصْلَحُوۤاْ } أي: عملوا ما يجب عليهم. { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } أي: من بعد ذنوبهم لهم "غفور رحيم".
ثم قال: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ }.
أي: [كان] معلم [خير] يأتم به أهل الهدى. قال مجاهد كان أمة على حدة. وروي عنه أنه قال: كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار. قال ابن مسعود: "الأمة" معلم الخير. ورواه مالك عن ابن مسعود أنـ[ـه] قال: "الأمة" الذي يعلم الناس الخير، "والقانت" المطيع لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، "والحنيف" المخلص. قال مالك: وذكر عبد الله بن مسعود معاذ بن جبل فقال: يرحم [الله] معاذاً لقد كان أمة قانتاً لله [عز وجل] حنيفاً.
وأصل القنوت الطاعة. فكان إبراهيم عليه السلام قائماً لله عز وجل بحقه صغيراً وكبيراً. نصح له فكسر الأصنام، وباين قومه بالعداوة، وأخلص لله [عز وجل] ودعا إلى عبادته، ولم تأخذه في الله لومة لائم، فأعطاه الله عز وجل ألا يبعث نبياً من بعده إلا من ذريته. وأعطاه الله عز وجل ألا يسافر في جميع الأرض فتخطر سارة على قلبه إلا هتك الله ما بينه وبينها من الحجب حتى يراها ما تصنع. وكان صلى الله عليه وسلم أول من اختتن، وأقام مناسك الحج، وضحى، وعمل بالسنن، نحو: قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العنة وشبهه.
و "الحنيف": الحاج في قول الضحاك، وعن ابن عباس: "الحنيف" المسلم. ويدل عليه قوله:
{ { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [النحل: 123] وقيل حنيفاً على دين الإسلام.
{ وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ } أي: مخلصاً بشكر الله [عز وجل] فيما أنعم عليه "واجتباه [واختاره] واصطفاه لخلته { وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي: ارشده إلى الطريق المستقيم وذلك دين الإسلام.
ثم قال تعالى: { وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً }.
أي: ذكر[اً] جميلاً حسناً باقياً على الأيام { وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي: أنه في الآخرة لمن صلح أمره وشأنه عند الله [عز وجل] وحسنت منزلته.
وقيل: معناه، وأنه في ثواب الآخرة / لمن الصالحين لأن الآخرة ليست بدار عمل إنما هي دار جزاء. فالمعنى: أنه وإن أعطي أجره في الدنيا، فإنه في الآخرة على مثل ثواب الصالحين، لا ينقصه من ثوابه شيء لأجل إيتائه أجره في الدنيا.
وقيل في الآية: تقديم وتأخير، والتقدير: وآتيناه أجره في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين. [و] في هذا القول: بعد، لأن ما بعد [إن] لا يقوى بها التقديم وما بعد: "إن" منتظر [لما] لم يكن، وما قبلها قد كان ووقع فلا يدخل أحدهما في الآخر.
وقيل المعنى: وأنه في أجر الآخرة والعمل لها لمن الصالحين. وهذا: قول صالح حسن.
قال مجاهد: الحسنة هنا لسان صدق. وقال قتادة: الحسنة أنه ليس أهل دين ألا يتولاه ويرضاه.