التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً
٣٩
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً
٤٠
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً
٤١
قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً
٤٢
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً
٤٣
تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً
٤٤
-الإسراء

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ } إلى قوله: { حَلِيماً غَفُوراً }.
المعنى الذي بيّنا لك يا محمد من الأخلاق: المرغب فيها، والتي نهيناك عن فعلها، "مما أوحى إليك ربك من الحكمة" أي: من الأشياء التي أوحاها إليك ربك يعني القرآن.
ثم قال تعالى: { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ }.
أي: شريكاً في عبادته.
{ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً }.
أي: تلومك نفسك وعارفوك من الناس: "مدحوراً": مبعداً مقصى في النار. قال ابن عباس: "مدحوراً" مطروداً.
ويروى أن من قوله [تعالى": { [وَ]لاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } إلى قوله: { مَلُوماً مَّدْحُوراً } هي العشر كلمات التي أنزلها الله [عز وجل] على موسى [صلى الله عليه وسلم] في التوراة. ومثلها التي في الأنعام
{ { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [الأنعام: 151] إلى آخر الثلاث آيات. وهي المُحْكَمَة التي ذكرها الله [عز وجل] في سورة آل عمران. وفيه اختلاف قد ذكرته هنالك.
ثم قال: { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً }.
هذا توبيخ للمشركين الذين جعلوا الملائكة بنات الله [سبحانه و] تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ومعناه افاختار لكم ربكم أيها الناس / الذكور من الأولاد واتخذ لنفسه البنات وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم، فجعلتم لله [عز وجل] ما لا ترضون لأنفسكم. وقيل: الذين قالوا هذا هم اليهود، قاله قتادة. وقيل: هم كفرة العرب وعليه أكثر المفسرين.
ثم قال تعالى: { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً }: أي قولة منكرة.
ثم قال: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ [لِيَذَّكَّرُواْ] }.
أي: صرفنا لهؤلاء المشركين، الآيات والعبر والأمثال، والتخويف، والإنذار، والوعد، والوعيد.
والمفعول لصرفنا محذوف وهو التخويف والإنذار وشبهه وقيل: "في": زائدة والمعنى: صرفنا هذا القرآن. والأول أحسن.
فالمعنى: صرفنا الأمثال في هذا القرآن لعلهم أن يتذكروا ذلك فيعقلوا خطأ ما هم عليه، فيرجعوا ويؤمنوا وما يزيدهم ذلك البيان إلا نفوراً عن الحق وبعداً منه.
وتشديد "لِيَذَكَّرُوا" تحقيقه بمعنى: يقال تذكرة ما صنعت. وذكرت ما صنعت بمعنى: قال ذكره:
{ { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } [البقرة: 40] بمعنى: تذكروا نعمتي، أي: تفكروا فيها واعتبروا. وقال: { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } [البقرة: 63] وقَالَ: { { [كَلاَّ] إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [عبس: 11-12] و { { مَّا تَذَكَّرُونَ } [الحاقة: 42]" فكله بمعنى الاتعاظ والاعتبار لا بمعنى ذكر النسيان. وليس من خفف يجعله من ذكر النسيان وإنما هو من التفكر والاعتبار كالمشدد.
ثم قال [تعالى]: { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ }.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله ءالهة: لو كان الأمر كما تقولون من أن مع الله [سبحانه] ءالهة إذن لابتغت تلك [الآلهة] القربى من الله [عز وجل] ذي العرش العظيم، والتمست الزلفى عنده [جلّت عظمته].
قال قتادة معناه: إذن لعرفوا له فضله فابتغوا ما يقربهم إليه. وقال ابن جبير معناه: إذن لطلبوا إليه طريقاً للوصول ليزيلوا ملكه. وقيل معنى ذلك: إذن لطلبوا الربوبية وضادوه في ملكه كما يفعل ملوك الدنيا.
ثم قال تعالى: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ }. ينزه نفسه عما قالوا وافتروا.
و "كلوا": مصدر. جاء على غير الـ[ـمـ]ـصدر. ولو جاء على صدر الكلام لكان تعالياً، ولكنه مثل
{ { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [المزمل: 8] ومثل" { أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17].
ثم قال تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ }.
أي: تنزهه من السوء الذي وصفه به المشركون و "من فيهن"، يعني: من في السماوات والأرض من الملائكة والجن والإنس.
ثم قال: { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ }.
روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحاً قال لابنه: يا بني آمرك [أن تقول سبحان الله بحمده فإنها صلاة] الخلق وتسبيح الخلق وبها يرزق الخلق، قال الله [عز وجل]: { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ }" .
وعن النخعي أنه قال: الطعام: يسبح. وقال قتادة: كل شيء فيه روح يسبح / من شجرة وغيرها.
وقيل معنى ذلك: أن ما من شيء إلا يدل على توحيد الله وينزهه من السوء، فذلك تسبيحه.
وقال الحسن: كل شيء فيه روح يسبح بحمده.
{ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } أي: لا تعقلون ذلك.
وروى معاذ بن محمد الأنصاري أن النبي عليه السلام قال: "لا تقتلوا الضفادع فإنه ليس لله [عز وجل] خلق أكثر تسبيحاً منها".
وذكر أبو عبيد أن داوود صلى الله عليه وسلم بات داعياً لربه [عز وجل] ومصلياً حتى أصبح فذهب إلى نهر ليتوضأ، فقال: الحمد لله لقد عبدت الله الليلة عبادة ما عبده أحد مثلها من أهل الأرض. فكلمته ضفدع من الماء فقالت له: كلا يا أبا سليمان، فوالله إنه لي ثلاثاً من الدهر ما جمعت [ما] بين فقمي تسبيحاً لله [عز وجل].
واختلف الناس في تسبيح الموات كالجبال والحيطان [وشبه ذلك]: فقال قوم: تسبيح ذلك ما فيه من دلالة على خالقه ومشيئته، ومنه قوله:
{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [البقرة: 74] يعني: يتبين في ظاهره من قدرة الله [عز وجل] على خلقه ما يضاهي الخشية لله والإقرار بقدرته.
وقال آخرون: تسبيح الموات أنها تدعو الناظر إليها والمتأمل لخلقها إلى تسبيح الله [تعالى] والنطق بعظمته. فنسب التسبيح إلى الموات لما كانت تنسبه.
كما قالت العرب له: إبل تنطق الناس أي إذا نظروا إليها نطقوا تعجباً منها، من كثرتها، فقالوا سبحان الله! ما أكثرها! ما أحسنها!
و [قال] آخرون وهم أصحاب الحديث وكثير من العلماء. الأشياء كلها تسبح، الموات وغيره، والله [عز وجل] يعلم تسبيح كل صنف منها، وقد كلمت الحجارة والأشجار والجمادات الأنبياء [عليهم السلام، وكذلك البهائم كلمت الأنبياء وكلمت من كان في عهد الأنبياء. والروايات بذلك كثيرة مشهورة. وهذا باب يتسع فيه الكلام لكثرة الشواهد عليه.
ثم قال تعالى: { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }.
أي: حليماً لا يعجل على خلقه المفترين عليه. "غفوراً" أي: ساتر[اً] لذنوب من آمن [به] منهم. قال قتادة: حليماً: أي: لا يعجل كعجلة بعضهم على بعض.