التفاسير

< >
عرض

وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذٰلِك فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً
٥٨
وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً
٥٩
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً
٦٠
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً
٦١
-الإسراء

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { وَإِن [مِّن] قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا } إلى قوله { لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً }.
المعنى: وما من أهل قرية إلا سيهلكون قبل يوم القيامة إما بعذاب أو بموت.
وقيل معناه وإن من قرية مفسدة أو ظالمة إلا نحن مهلكوها. [وهو / قول حسن] دليله [قوله تعالى].
{ { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [القصص: 59] وله في القرآن نظائر.
{ ذٰلِك فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً }.
أي: في اللوح المحفوظ. وقيل في الكتاب الذي كتبه الله [عز وجل] للملائكة فيه أخبار العباد الكائنة والتي لم تكن ليستدلوا بذلك على قدرته [جلّت عظمته].
ثم قال تعالى: { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ }.
المعنى وما منعنا أن نرسل بالآيات [التي] اقترحتها قريش { إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ } فأهلكوا واستؤصلوا فلو أرسلت إلى هؤلاء بالآيات وكذبوا لأهلكوا واستؤصلوا، ففعل الله [عز وجل] بهم في ترك مجيء الآيات التي سألوها فيه الصلاح.
وفي هذا ما يدل على أن الله جل ذكره أخَّر الآيات عن قريش، لئلا يكفروا بها فيهلكوا كما فعل بالأمم قبلهم. فكان تأخيره لذلك لما علم أن منهم من يؤمن ومنهم من يولد له من يؤمن. فأخّر الآيات ليتم علمه فيهم. وعلم من الأمم الأول أنه لا يؤمن أحد منهم، ولا يولد لأحد [منهم] من يؤمن فأرسل الآيات فكفروا فأهلكوا. وأخّر ذلك عن قريش ليتم ما علم منهم. وقد ظهرت آيات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فالمعنى في هذا: ما منعنا أن نرسل بالآيات التي معها الاصطلام والهلاك لمن كذب بها، إلا أنا حكمنا على كافري أمة محمد [صلى الله عليه وسلم] بعذاب الآخرة وألا يصطلموا بعذاب الدنيا. وهو قوله
{ { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107]. فالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمنين إذ أستنقذهم من الضلال وهداهم إلى الإيمان، وهو رحمة للكافرين إذ أخّر عذابهم واصطلامهم إلى الآخرة. قال ابن عباس: "سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحي عنهم الجبال، فيزرعون فقيل له: إن شئت أن تستأتي بهم لعلنا نجتني منهم. وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من كان قبلهم قال لا، بل استأني بهم فأنزل الله الآية" . وعلى هذا المعنى قول الحسن وابن جبير وقتادة، وهم أهل مكة.
ثم قال [تعالى] { وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً }.
أي: وقد سألـ[ـت] الآيات من قبل محمد [صلى الله عليه وسلم] ثمود فأتيناها ما سألت وجعلنا تلك الآية [ناقة] مبصرة، أي: ذات أبصار، أي: مضيئة ظاهرة بمنزلة قوله:
{ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } [يونس: 67] أي: مضيئاً. وقيل: معنى مبصرة مبينة. أي: تبين لهم صدق صالح عليه السلام. وقال مجاهد مبصرة [آية].
ثم قال: { فَظَلَمُواْ بِهَا }.
أي: فظلموا من أجلها لأنهم عقروها وكفروا بما جاءتهم فصار ظلمهم من أجلها. وقيل: معناه فظلموا بتكذيبهم بها.
ثم قال: { وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً }.
أي: وما نرسل بالعبر إلا تخويفاً / للعباد. وقيل: الآيات هنا: [هي] آيات القرآن. وقال الحسن: هو الموت الذريع.
وقال نفطويه: الآيات هنا ثلاث: آية تدل على النبوة ومعجزة. وآية عقوبة، يعني: سؤال تبين فيها القدرة، وهاتان معهـ[ـمـ]ـا النظرة، ومنه قوله: { وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } فهذه معها النظرة، والثالثة: آية سألتها أمة غير ما جاءها به نبيها فهذه لا نظرة معها إذا أعطيتها الأمة فكفرت بها أهلكت.
ثم قال تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ }.
أي: واذكر يا محمد إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس، وذلك أن الله جل ذكره وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيمنعه من كل من بغاه بسوء، فذكره هنا ما قد قال له أولاً.
ومعنى: { أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ } أي: هم في قدرته وقبضته فلا يصلون إليك يا محمد بسوء، فامض لما أمرت به [من] تبليغ الرسالة. قال الحسن: معناه: أحاط لك بالعرب ألا يقتلوك، فعرف أنه لا يقتل.
ثم قال: { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ [إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ] }.
يعني: [ما أراه] ليلة أسري به افتتن بها قوم فارتدوا عن الإسلام. وهذا مما يدل على أن الرؤيا التي كانت رؤيا عين لا رؤيا نوم. لأنها لو كانت رؤيا نوم ما افتتن أحد بها ولا ارتد. لأن الإنسان يرى في نومه مثل هذا وأبعد منه. فلما أخبرنا الله [عز وجل] أن الرؤيا كانت فتنة للناس، علمنا أنها رؤيا عين. لأن من كان ضعيفاً في الإسلام يستعظم الوصول إلى بيت المقدس والرجوع منها في ليلة فيرتد بجهله، وقلة علمه.
وأيضاً فإنها لو كانت رؤيا نوم، لم تكن بآية ولا فيها دلالة عن نبوة، لأن سائر الناس، قد يرى في نومه ما هو أبعد من ذلك.
وعن ابن عباس: إن هذه الرؤيا المذكورة هنا هي رؤيا رءاها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. رأى أنه يدخل مكة هو وأصحابه. فعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة قبل الأجل. فرده المشركون. فقال ناس: قد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان حدثنا أنه سيدخلها، فاتتن قوم بذلك.
والصحيح أن الرؤيا هنا ما رأى إذ أسري به. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح - غداة أسري به - على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثرهم: إن العير لتطرد شهراً من مكة إلى الشام مدبرة، وشهر مقبلة، فيذهب محمد ذلك في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة. فارتد جماعة من الناس، فذلك الفتنة التي ذكر الله [عز وجل].
ويروى
"أن الناس ذهبوا إلى أبي بكر [رضي الله عنه] فقالوا يا أبا بكر: صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. / فقال أبو بكر: تكذبون عليه. فقالوا: بل ها هو ذا في المسجد يحدث بها الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قالها لقد صدق، فما يعجبك من ذلك؟ فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل أبو بكر حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال: يا نبي الله، فصفه لي، فإني قد جئته. قال الحسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فرفع لي حتى إني نظرت إليه فجعل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يصفه لأبي بكر وأبو بكر يقول: صدقت أشهد أنك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كلما وصف له منه شيئاً قال: صدقت أشهد أنك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حتى إذا انتهى، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر: الصديق. فيومئذ سماه الصديق" . وأنزل الله [عز وجل] فيمن ارتد عن إسلامه في ذلك الوقت الآية: { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ } الآية.
وقيل: إنها رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فغمته: رأى أن بني أمية ينزون على منبره نزو القردة. فساءه ذلك فما استجمع ضاحكاً حتى مات.
والقولان الأولان أحسن وأبين لأن هذه الرؤيا لو صحت ما كان فيها فتنة لأحد. وقد أخبرنا الله أنه جعلها فتنة للناس. وأيضاً فإن السورة مكية، والرؤيا التي رآها في المنام بالمدينة كانت.
وقوله: { وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ }.
قال ابن عباس: هي شجرة الزقوم. وهو قول: [أبي] مالك، وعكرمة وابن جبير والنخعي ومجاهد والضحاك.
وقال الحسن: كانت قريش يأكلون الثمر والزبد ويقولون تزقموا من هذه الزقوم فوصفها الله [عز وجل] لهم في "والصافات".
قال الحسن: قال أبو جهل وكفار قريش: أليس من كذب ابن أبي كبشة أنه يوعدكم بنار تحترق فيها الحجارة ويزعم أنها تنبت فيها [الـ]ـشجرة.
وعن ابن عباس: [إنها] الكشوتا.
وتقدير الآية: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك في الاسرا بك، والشجرة الملعونة في القرآن، إلا فتنة للناس، فكانت فتنة الرؤيا الارتداد، وفتنة الشجر قول أبي جهل وأصحابه: يخبرنا محمد أن في النار شجرة نابتة والنار تأكل الشجر. فزادت بذلك فتنة المشركين وبصيرة المؤمنين.
وإنما قال الملعونة: وهي لم تلعن في القرآن على معنى الملعون آكلها. وقيل: إنما قيل ذلك: لأن العرب تقول: لكل طعم مكروه ملعون.
ثم قال { وَنُخَوِّفُهُمْ }.
أي نخوف هؤلاء المشركين ونتوعدهم بالعقوبات فما يزيدهم تخويفنا إلا طغياناً أي: تمادياً في كفرهم كبيراً لأنهم لما خوفوا بالنار التي طعامهم فيها الزقوم دعوا بالثمر / الزبد وقالوا تزقموا من هذا الزقوم.
ثم قال: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ }.
المعنى: واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس حسد آدم، وسخر منه، وقال: لا أسجد لمن خلقته من طين، وأنا مخلوق من نار. والنار تأكل الطين. قال ابن عباس: بعث رب العالمين إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم [صلى الله عليه وسلم]. فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى الجنة، وإن كان ابن كافرين، وكل شيء خلقه من ملحها، فهوى صائر إلى النار، وإن كان ابن نبيين.