التفاسير

< >
عرض

رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً
٦٥
وَيَقُولُ ٱلإِنسَانُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً
٦٦
أَوَلاَ يَذْكُرُ ٱلإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً
٦٧
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً
٦٨
ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً
٦٩
-مريم

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } إلى قوله: { أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً }. أي: وما كان ربك - رب السماوات والأرض وما بينهما - ذا نسيان، "فاعبده" أي: الزم طاعته.
{ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } أي: اصبر نفسك على العمل بطاعته.
{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } أي: مثلاً وشبهاً في جوده وحلمه وكرمه وطوله. قاله ابن عباس وقتادة / ومجاهد وابن جبير.
وعن ابن عباس أن معناه: هل تعلم يا محمد أحداً يسمى الرحمن سواه.
وقيل: هل تعلم أحداً يقال له الله غيره.
وقيل المعنى: هل تعلم أحداً يقال له رب السماوات والأرض وما بينهما غيره.
وقيل: المعنى: هل تعلم أحداً يجوز أن يكون إلهاً معبوداً غيره.
ثم قال تعالى: { وَيَقُولُ ٱلإِنسَانُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً }.
أي: ينكر الإنسان الكافر البعث، فيقول: أنبعث، إذا ما مت، إنكاراً منه للبعث.
فقال الله تعالى لنا: { أَوَلاَ يَذْكُرُ ٱلإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } أي: فكما خلقناه من غير شيء، وأوجدناه من عدم، كذلك نحييه بعد مماته. وهذا مثل قوله تعالى:
{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ } [يس: 78] فكان الجواب { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [يس: 79] والرؤية بمعنى العلم في هذا. أي: أولم يعلم الإنسان ذلك من حدوثه قبل أن لم يكن شيئاً. ولا يجوز أن تكون من رؤية البصر، لأن الإنسان لم ير نفسه وقت خلقه.
والوقف على "حياً" بعيد، لأن "أولاً" معطوف، دخل عليه ألف الاستفهام للتوبيخ.
وقيل: إن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه. ثم هي في كل من كان مثلهم من الكفار المنكرين للبعث. ودخلت اللام في "لسوف" للتأكيد جواباً لقول قيل للإنسان، كان النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا ما مت لسوف تبعث حياً). فقال إنكاراً للبعث، وجواباً لما قيل له: "أئذا ما مت لسوف أبعث" فأتى باللام في الجواب، كما كانت في القول ولو كان مبتدئاً بذلك لم تدخل اللام، لأن اللام للتأكيد والإيجاب، وهو منكر للبعث، فلا يصلح دخول اللام في غير منكر لخبره، فإنما دخلت في هذا لمجازاة ما قيل له. أدخل اللام في الجواب كما دخلت في القول الذي أجاب عنه.
ثم قال: { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ }.
أي: لنحشرن هؤلاء المنكرين للبعث مقرنين بأوليائهم من الشياطين.
{ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً }.
أي: على ركبهم، وهو جمع جاث. وأصله جثو، مثل: قاعد وقعود، ثم أبدل من الواو ياء لأنها ظرف على ما تقدم في "مرضياً".
وقيل: "جثياً" قعوداً لا يقدرون على القيام لشدة هول ما يرون.
روى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال:
"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم [ملاقو] الله حفاة عراة مشاة عزلاً" . قال ابن جبير: يحشرون حفاة عراة، فأول من يكسى خليل الله إبراهيم عليه السلام.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم" . ثم قال تعالى: { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً }.
أي: ثم لنأخذنّ من كل جماعة أشدهم على الرحمن عتواً وتمرداً. يعني الأكابر فالأكابر جرماً. والجبار فالجبار.
والمعنى: نبدأ بتعذيب أعظمهم جرماً ثم الذي يليه ثم الذي يليه.
قال مجاهد: "من كل شيعة": من كل أمة. والشيعة: الجماعة المتعاونون على الأمر: فالتقدير: لنأخذن من كل أمة تعاونت على الكفر أشدهم كفراً ثم الذي يليه.
"وأيهم" رفع عند الخليل على الحكاية. أي لننزعنّ الذي يقال له من أجل عتوه أيهم أشد.
ومعناه: لننزعن من كل فرقة الأعتى فالأعتى، يعذب أولاً أشدهم كفراً ثم الذي يليه.
ومذهب يونس أن "لننزعن" معلق. "وأيهم" رفع بالابتداء وليس هذا الفعل مما يجوز أن يعلق عند غيره.
ومذهب سيبويه أن "أيهم" مبنية على الضم، لأنها خالفت أخواتها في الحذف، لأنك لو قلت رأيت الذي أفضل منك، ومررت بمن أفضل منك قبح، وذلك حسن في "أيهم" فخالفت أختها بحسن حذف الصلة بعدها، فبنيت على الضم.
وقد خطيء سيبويه في هذا القول، لأن مذهبه أنه إنما أعرب "أيا" إذا انفردت من أجل أنها تضاف. فكيف يعربها من أجل أنها تضاف ويبينها وهي مضافة.
وقال الكسائي: "لننزعن" واقع على المعنى. كما تقول: لبست من الثياب، وأكلت من الطعام. فترفع "أيهم" بالابتداء.
وقال الفراء: المعنى: "لننزعن" بالنداء، فيكون معنى "لننزعن": لننادين. وهذا يتعلق، ولا يتعدى، فحسن الرفع بالابتداء، إذ هو في موضع فعل يجوز أن يعلق عن العمل. أعني "لننزعن" وقع موقع "لننادين". ونادى / فعل يعلق عن العمل إذا كان بعده جملة. فلا يعمل في اللفظ ويعمل في المعنى كظننت وحسبت.
وقال بعض الكوفيين في "أي" معنى الشرط والمجازاة فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها.
وقال المبرد: "أيهم" متعلقة بشيعة لا بننزعن. والمعنى: ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم. أي: من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد. فيكون المعنى على هذا ثم لننزعن من هؤلاء الذين فعلوا هذا الذي وصف عنهم.