التفاسير

< >
عرض

وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً
٧٦
أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً
٧٧
أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً
٧٨
كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً
٧٩
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً
٨٠
-مريم

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى } إلى قوله: { وَيَأْتِينَا فَرْداً }.
أي: ويزيد الله المؤمنين هدى، لأنهم يؤمنون بكل ما أنزل إليهم من الفرائض، ويصدقون بها، ويعملون بها، فهم في زيادة إيمان وهذا مثل قوله تعالى:
{ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً } ... [التوبة: 124] الآية.
وقيل: يزيدهم هدى بإيمانهم بالناسخ والمنسوخ.
وقيل: هو زيادة في اليقين بجعل جزائهم في الدنيا أن يزيدهم في يقينهم هدى.
ثم قال تعالى: { وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً }.
يعني: الأعمال الصالحات هي خير عند ربك جزاء لأهلها.
{ وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } عليهم من مقامات هؤلاء المشركين في أنديتهم، وافتخارهم بها في الدنيا. وقد تقدم ذكر الباقيات الصالحات، واختلاف العلماء في معناها في "الكهف".
وقد قيل: "الباقيات الصالحات" الإيمان والأعمال الصالحة وسماها باقية، لأنها تنفع أهلها في الدنيا والآخرة ولا تبطل كأعمال الكفار الذين لا يريدون بها ما عند الله.
وروي
"أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم فأخذ عوداً يابساً فحط ورقه، ثم قال: إن لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله يحططن الخطايا كما تحط ورق الشجر الريح، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن، هن الباقيات الصالحات، وهن من كنوز الجنة. فكان أبو الدرداء، إذا ذكر هذا الحديث قال: لأهللن الله، ولأكبرن الله، ولأسبحن الله حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون" .
وإنما سميت هذه الكلمات بالباقيات الصالحات لأنها تبقى لأهلها حتى يردوا عليها في الجنة.
وروى أبو هريرة
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذوا جنتكم خذوا جنتكم فقالوا: يا رسول الله، أمن عدو قد حضر؟ قال: لا، ولكن من النار. قولوا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومنجيات، هن الباقيات الصالحات" .
ثم قال تعالى: { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً }.
هذه الآية نزلت في العاص بن وائل السهمي.
قال خباب: كنت قينا - والقين الحداد - قال: وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. قلت: والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث.
قال: وإني لمبعوث؟ قلت: نعم. قال: فإنه سيكون لي ثم مال وولد، فأقضيك. فأنزل الله جل ثناؤه { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا... } الآيات إلى { ... فَرْداً }.
وكذلك قال مجاهد:
وقال ابن عباس: كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين، فأتوا يتقاضونه فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة فضة وذهباً وحريراً ومن كل الثمرات؟ قالوا: بلى. قال: فإن موعدكم الآخرة، فوالله لأوتين مالاً وولداً، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به، فضرب الله تعالى مثله في القرآن في قوله: { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا }. إلى { فَرْداً }.
ثم قال تعالى: { أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً }.
أي: اعلم هذا القائل الغيب أفقال ذلك عن علم / غيب عنده؟ أم اتخذ عند الرحمن عهداً؟ أي: أم آمن بالله ورسوله وعمل بطاعته فكان له بذلك عهد عن الله فيؤتيه ما يقوله له في الآخرة؟.
قال قتادة: "عهداً" عملاً صالحاً قدمه. وقاله: سفيان.
وقيل: "العهد" التوحيد: "لا إله إلا الله".
وقيل: "العهد: الوعد.
وقال عبد الله بن عمر: يقول الله تعالى يوم القيامة: من كان له عندي عهد، فليقم، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، فعلّمنا. فقال قولوا: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك عهداً في هذه الحياة الدنيا، إنك إن تكلني إلى عملي تقربني من الشر، وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعلها لي عندك عهداً تؤديه إلى يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد.
ثم قال تعالى: { كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } المعنى: ليس الأمر كما قال أنه يؤتى في القيامة مالاً وولداً.
قال أبو محمد ولـ "كلا" كتاب مفرد في القرآن، قد ألفناه وكتب عنا، ولذلك لم نشبع الكلام فيها ها هنا.
ثم قال: { كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ }.
أي: سنكتب قوله، فنجازيه عليه، فنمد له من العذاب مداً. أي: نزيده زيادة من العذاب على قوله هذا. أي: نطول له العذاب غير ما له من العذاب على كفره.
ثم قال: { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ }.
أي: نرث منه ماله وولده يوم القيامة { وَيَأْتِينَا فَرْداً } أي: وحده لا مال له ولا ولد.
وقوله: "ونرثه" هو، فعل من فعل يفعل بالكسر فيهما، كما جاء بالضم في الفعلين في مثل: ظرُف يظرُف. ونظيره: ورم يرم وومق يمق، ووري الزنديري، ووفق بأمره يفق، وورع يرع ووثق، يثق، ومنه وسع يسع ووطيء يطأ. وإنما فتح من أجل حرف الحلق، والدليل على أنه يفعل بالكسر في الأصل، حذف الواو منه في المستقبل. وبعدها فتحة، ولم يعتد بالفتحة، إذ هي غير أصلية، إنما أحدثها حرف الحلق، والكسر هو الأصل، فلذلك حذفت الواو في المستقبل على أصل حذفها في: يزن، ويعد وشبهه.
وقد أتت أربعة أفعال من السالم على يفعَل ويفعِل باللغتين في المستقبل وهي حسب يحسب، ونعم ينعم، ويبس يبس ويئس ييأس.
وحرف الجر، مقدر محذوف من المفعول الأول في "ونرثه" أي ونرث منه قوله.
وفي حرف ابن مسعود، و "نَرِثُهُ ما عِنْدَهُ".
وقال ابن زيد: "وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ" ما جمع من الدنيا، وما عمل فيها.
وقيل: معناه: ويبقى عليه الإثم.