التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
١٥٨
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ
١٥٩
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
١٦٠
إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ
١٦١
خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ
١٦٢
وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ
١٦٣
إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٦٤
-البقرة

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ }.
إلى قوله: { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
الصفا والمروة جبلان متحاذيان بمكة معروفان، ولذلك دخلت الألف واللام فيهما للتعريف.
وجمع الصَّفَا أَصْفَاء كَرَحَا وأَرْحَاء. ويجوز في جمعه: صُفِيٌّ وصِفِيٌّ، كَعَصَا وَعُصِيُّ وعِصِيٌّ.
وجمع مَرْوَة مَرْو [كَتَمْرَةٍ وَثَمْرٍ]، وإن شئت مَرَوَاتٍ كَتَمَراتٍ.
والصفا في اللغة الحجارة الصلبة التي لا تنبت شيئاً.
والمروة الحصاة الصغيرة.
وقوله: { مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ }.
أي: من معالم الله التي جعلها لعباده مشعراً يعبدونه عندها إما بالدعاء وإما بالصلاة، وإما بأداء ما افترض عليهم من العمل عندهما.
وقيل: شعائر الله من أعلام الله التي تدل على طاعته من موقف ومشعر ومذبح، والواحدة شعيرة من "شَعَرْتُ بِهِ".
وكان مجاهد يرى أن الشعائر جمع شعيرة من إشعار الله تعالى عباده ما يجب عليهم من طاعته، قال: "أَشْعَرْتُهُ بِكَذَا"، أي: أعلمته به. وقال الطبري: "إنما أعلم الله عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر الحج التي سنّها الله تعالى لهم، وأمر بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم إذ سأله أن يريه مناسك الحج، وهو [خبر يراد به] الأمر لأن الله سبحانه قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين باتباع ملة إبراهيم.
ثم قال: { فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا }.
هذه الآية نزلت في سبب أقوام من المؤمنين قالوا في سبب أصنام كانوا يطوفون بها في الجاهلية قبل الإسلام تعظيماً لها: كيف [نطوف بها، وقد] علمنا أن تعظيم الأصنام وجميع ما كانوا يعبدون من دون الله عز وجل / شرك بالله سبحانه؟ فلا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله عز وجل. فأنزل الله تعالى في ذلك { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } من أول الآية.
والجناح الإثم، مأخوذ من قولهم: "جَنَحَ عَلَيْه" إذا مال، و "جَنَحَ عَنِ الحَقّ" إذا مال عنه. ومنه سمي جناح الطائر لأنه مائل في ناحية، وقوله
{ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [القصص: 32]: معناه يدك لأنها في موضع الجناح. والهاء في (عَلَيْهِ) تعود على (مَنْ). و "من" تصلح للحاج أو المعتمر.
قال السدي: "ليس عليه إثم، ولكن له أجر".
قال الشعبي: "كان على الصفا في الجاهلية صَنَم يسمى "إِسافٌ"، وعلى المروة وثن يسمى "نَائِلَةٌ"، فكانوا في الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوَثَنيْن. فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام امتنع المسلمون من الطواف بالصفا / والمروة لأجل الصنمين، فأنزل الله عز وجل { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ } الآية.
وذُكر الصفا لأن الصنم / الذي كان عليه مذكر - يعني إسافاً - وأُنِثَ المروة لأن الوثن التي كانت عليه مؤنثة - يعني نائلة -.
وقال أنس بن مالك: "كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الجاهلية حتى نزلت هذه الآية".
وقال عروة: "قلت لعائشة رضي الله عنها - وأنا يومئذ حديث السن -: أرأيت قول الله عز وجل: { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا }، فما أُرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما". قالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول كانت: "فلا جناح عليه ألا يطوف بهما" إنما نزلت هذه الآية في الأنصار؛ كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة. فلما جاء الإسلام، سألوا [رسول الله] صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله [جل ذكره]: { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ } الآية. وهو قول مجاهد وابن زيد.
وعن ابن عباس أنه قال: "كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل أجمع بين الصفا والمروة، وكانت بينهما آلهة. فلما جاء الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله: لا نطوف بين الصفا والمروة فإنه شرك / كنا نضعه في الجاهلية، فأنزل الله: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا }.
وقال قتادة: "كان حي تهامة في الجاهلية لا يسعون بين الصفا والمروة، فأخبرهم الله عز وجل أن الصفا والمروة من شعائر الله".
والحج في اللغة القصد. يقال: "حججت إليه" بمعنى قصدت / إليه. وقيل: الحج التكرر في الإتيان مرة بعد مرة. فمن أكثر الاختلاف إلى شيء فهو حاج. فعلى هذا إنما قيل للحجاج حاج لإنه يتكرر إلى البيت وقت الدخول ووقت الإفاضة وفي غير ذلك.
وقيل للمعتمر متعمر، لأنه إذا طاف انصرف بعد زيارته. فمعنى الاعتمار الزيارة، وكل من زار إنساناً فهو له معتمر، يقال: "اعْتَمرْتُ فُلاَناً"، أي: قصدته.
والطواف بين الصفا والمروة عند مالك والشافعي فرض، فمن نسي ذلك رجع وسعى، وإن بَعُد، فإن كان قد أصاب النساء، فعليه عمرة وهدي مع تمام سعيه إذا رجع. ومذهب الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف أن يجزيه دم إن نسي السعي بينهما، ولا عودة عليه إلا أن يشاء ذلك.
وقال عطاء: "هو تطوع ولا شيء عليه إذا نسي ذلك". واحتج بأن في قراءة ابن عباس: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا }. وكذلك هي في مصحف ابن مسعود.
وكذلك روي عن أنس بن مالك أنه قال: "هو تطوع". وروي ذلك عن مجاهد.
والعمل على القول الأول لإجماع المصاحف المعمول عليها، المجتمع على ما فيها من إسقاط "لا" منها كلها. وإيجابها عن ابن عباس أشهر وأوضح. والإسناد عن أنس ضعيف.
وجميع من قرأ على مجاهد من الأئمة المشهورين لم ينقل عنه إلا بغير "لا". وقد روى جابر عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه: "لَمّا دَنَا مِنَ الصَّفَا فِي حَجَّتِهِ قَالَ:
"إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ، أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ" .
ثم قال: { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }. أي: شاكر له على تطوعه، عليم بما تطوع.
وقال ابن زيد: "معناه: فمن تطوع خيراً فاعتمر، فإن الله شاكر عليم، والعمرة / تطوع، والحج فرض".
ثم قال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ }.
يعني أحبار اليهود وعلماء النصارى كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وتركوا اتباعه مع كونه مذكوراً عندهم في التوراة والإنجيل موصوفاً.
وذكر عن ابن عباس أن معاذ بن جبل سأل بعض أحبار اليهود عن ما في التوراة من ذكر النبي عليه السلام فكتموه إياه، فأنزل الله صلى الله عليه وسلم: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ }. إلى: { ٱللاَّعِنُونَ }. وهو قول مجاهد.
وقال قتادة: "هم أهل الكتاب كتموا الإسلام، وهو دين الله سبحانه وكتموا محمداً وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل".
/ وقوله: { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ }.
يعني بالكتاب هنا: التوراة والإنجيل. وهذه الآية وإن كانت خاصة لبعض الناس فإنها عامة لكل من سئل عن علم يعلمه فكتمه.
وقال النبي [صلى الله عليه وسلم]
"مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ القِيامَةِ بِلِجَامٍ مِنَ النَّارِ" .
ثم قال: { أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ }.
أي: أولئك الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم يلعنهم الله عز وجل بكتمانهم، أي: يبعدهم الله من رحمته ويطردهم.
وقوله: { وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ }.
قيل: معناه: ويسأل ربَّهم اللاعنون أن يلعنهم لأن كل لاعن إنما يقول: "اللهم العن هذا".
وقيل: اللاعنون البهائم؛ إذا أسْنَتَتِ السَّنَةُ، قالت البهائم: "هذا من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم".
وقال عكرمة: "يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقارب / يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم".
وإنما جُمِعَ جَمْعَ السلامة على هذا القول، وهو ما لا يعقل لأنه لما أخبر عنهم بمثل ما يخبر عن بني آدم جمعهم كما يجمع بني آدم.
وقال قتادة: "اللاعنون هنا: "الملائكة والمؤمنون". وقاله الربيع.
قال مقاتل "اللاعنون كل ما على وجه الأرض إلا الثقلين: الجن والإنس، وذلك أن الكافر إذا أدخل قبره ضربته / الملائكة بمقمعة حين تقول له: من ربك؟ فيقول: لا أدري، فيصيح صيحة يسمعها كل ما على وجه الأرض من غير الجن والإنس، فلا تَقِر تلك الصيحة في سمع شيء إلا لعنه".
قال مجاهد: "اللاعنون البهائم".
ولما وصفت باللعنة: جاز جمعها بالواو والنون، وإن كانت لا تعقل. وله نظائر كثيرة.
وقيل: / اللاعنون الملائكة الذين يسوقون أهل الكفر إلى النار. والهاء في { خَالِدِينَ فِيهَا } تعود على اللعنة.
واللعن أصله الطرد والبعد من الرحمة.
قال مقاتل: "اللعنة النار". وحسن ذلك عنده لما كانت عاقبة اللعنة المصير إلى النار.
وقال السدي: "اللاعنون ما عدا بني آدم والجن".
وروي عن البراء بن عازب: "أن الكافر إذا وضع في قبره أتته دابة كأن عينيها قدران من نحاس، معها عمود من حديد، فتضربه ضربة بين كتفيه فيصيح، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه، ولا يبقى شيء إلا سمع صوته إلا الثقلين: الجن والإنس". / وهو قول الضحاك.
ويروى عن ابن مسعود أنه قال: "اللاعنون: الاثنان إذا تلاعنا ألحقت اللعنة مستحقها منهما، فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت على اليهود".
وقيل: هذه اللعنة إنما تكون يوم / القيامة كما قال تعالى:
{ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [العنكبوت: 25].
ثم قال تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ }.
أي تابوا من الكفر وأصلحوا أعمالهم فيما بينهم وبين الله عز وجل، وبيّنوا للناس أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو عندهم في كتابهم موصوف.
وقيل: المعنى: وبيّنوا التوبة بإخلاص العمل.
ثم قال: { فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ }: أي: أقبل توبتهم. { وَأَنَا التَّوَّابُ }: أي على من تاب.
{ الرَّحِيمُ } أي رحيم بالخلق أن أعذبهم بعد توبتهم من كفرهم.
ثم قال: { إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ }.
أي: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته.
{ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ }: أي ولعنة الملائكة.
{ وَٱلنَّاسِ }: يعني قول الناس: { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ }. وعني بالناس أجمعين هنا المؤمنون خاصة. قاله قتادة والربيع.
وعن أبي العالية أن ذلك يكون يوم القيامة، قال: "إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون". وهو اختيار الطبري واحتج بقوله تعالى:
{ { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } [هود: 18].
وقال السدي في قوله: { وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }: "أنه لا يتلاعن إثنان مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما: "لعن الله الظالم" إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر لأنه ظالم، فكل واحد من الخلق يلعنه".
ثم قال تعالى: { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ }.
أي: خالدين في جهنم باللعنة، لا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة ولا هم ينظرون لمعتذرة يعتذرون بها كما قال:
{ هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } [المرسلات: 35] { { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [المرسلات: 36]. قاله أبو العالية.
[و] إنما جاء لفظ { ٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } بلفظ العموم، وقد علم أن أهل دينهم لا يلعنونهم لأنهم وإن كانوا لا يقصدون باللعنة أهل دينهم فلا بد لهم أن يقولوا: "لعن الله الظالم" أو "الظالمين" فيدخل في ذلك كل كافر كائناً من كان.
ثم قال: { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ }. أي: معبودكم أيها الناس واحد، لا معبود غيره يستحق العبادة.
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } / أي: الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بأوليائه.
ومعنى "واحد" في صفته ونعته وأنه لا شبيه له ولا نظير. وليس معناه واحداً في العدد لأن كل مفرد من المخلوقات واحد في العدد، فالمعنى أنه من فرد واحد في الألوهية والقدرة والصفات [لا ثاني] له.
ثم قال: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } الآية.
هذه الآية فيها تنبيه من الله عز وجل لخلقه على قدرته ونعمه. والآية دالة على توحيده المقدم ذكره في الآية الأولى.
والمعنى: إن في رتبة هذه الأشياء وحدوثها وإحكام صنعتها لعلامات بينة، ودلالة واضحة على توحيد خالقها وإيجاب العبادة له دون غيره لقوم يعقلون.
وروي أن قوله: { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } الآية، لما نزلت، قال المشركون: "ما البرهان على ذلك ونحن ننكر ذلك، ونزعم أن لنا آلهة كثيرة؟ فأنزل الله: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } الآية، احتجاجاً عليهم فيما ادّعوا. هذا قول عطاء.
والمعنى بهذه القدرة والآيات تعلمون أن الإله إله واحد لا تجب العبادة إلا له.
وقال أبو الضحى: "لما نزلت: { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } الآية، قال المشركون: إن كان هذه هكذا، فليأتنا بآية. فأنزل الله: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } الآية.
وروى ابن جبير
"أن قريشاً سألت / اليهود عما جاءهم به موسى / من الآيات / فحدثوهم بالعصا وبيده بيضاء، وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى صلى الله عليه وسلم من الآيات، فحدثوهم أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً، فنزداد يقيناً ونتقوى به على / عدونا. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربّه، فأوحى الله عز وجل إليه: إني أعطيهم أن أجعل لهم الصفا ذهباً، ولكن إن كذبوا بعد، عذبتهم عذاباً لم أعذبه أحداً من العالمين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دَعْنِي وَقَوْمِي فَأَدْعُوهُم يَوْماً بِيَوْمٍ فَأَنْزَلَ الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }" الآية. أي: إن في ذلك لآية لهم إن كانوا يريدون أن أجعل لهم آية. وقاله السدي وغيره.