التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٣٠
-البقرة

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ } الآية.
معناه: واذكر يا محمد إذ قال ربك.
وقيل: معناه: ابتدأ خلقكم { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ } لأنه ذكر معنى ذلك قبل / هذا فقال:
{ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة: 21] أي خلقكم إذ قال ربك. ودخلت الواو في "إذ" عطفاً على ما قبلها لأنه تعالى ذكر خلقه نعمه في إحيائهم بعد الموت، وأنه [خلق لهم] ما في الأرض جميعاً، وسوى لهم السماوات وغير ذلك من نعمه فعدد على خلقه نعمه. ثم قال: واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلت للملائكة اسجدوا له تفضيلاً له وابتلاء للملائكة. وإلى هذا المعنى ذهب الطبري في هذه الواو، [وفي و "إذا"].
وقوله: { لِلْمَلَٰئِكَةِ }، اختلف في اشتقاق "ملك" وتقديره ومعناه.
فقيل: واحدها مَلَكٌ، وأصله "ملأك" على وزن "مَفْعَل"، الهمزة بعد اللام وهي عين الفعل فجمع على الأصل على مفاعل، فقيل: "مَلائِكٌ" وزيدت الهاء للمبالغة. وقيل لتأنيت الصيغة.
وقال ابن كيسان: "هو مشتق من "ملكت"، والهمزة في "مَلأْك" زائدة كزيادتها في شَمْأَلٍ، إذ هو من "شملت الريح" أي عمت".
وقال غيره: هو مشتق من الأُلُوكَةِ، وهي الرسالة بالهمزة بالفعل لكن قلبت همزته وهي فاء، فصارت عيناً فأخرت بعد اللام وأَصْلُها "مَأْلَكٌ" ثم نقلت الهمزة بعد اللام فصارت "مَلَكاً"، وجمع على ذلك، ولم يرد إلى أصله وكان حقه / أن يرده الجمع إلى أصله، [فخرج عن الأصل في الجمع].
وقيل: هو مشتق من المَلأَكَةِ وهي الرسالة أيضاً حكاها أبو عبيد، يقال: "لأَكَ إِليهِ يَلأَكُ مَلأَكَةً" إذا أرسل إليه رسالة.
ويقال في لغة أخرى: "أَلَكَْتُ إِلَيْهِ أَألْكُ مَأْلَكَةً" إذا أرسلت.
فعلى / القول الأول من هذين القولين يكون "مَلَكٌ" مخفف الهمزة، ألقيت حركة الهمزة على اللام وأصله "مَلأَكٌ"، وجمعه "مَلاَئِكَةٌ". والهمزة عين الفعل ولا قلب فيه، إنما فيه في الواحد تخفيف الهمزة [بنقل حركتها] إلى الساكن قبلها وهو اللام.
وعلى القول الثاني يكون "مَلأَكٌ" مقلوباً وأصله: "مَأْلَكٌ"، والهمزة فاء الفعل، ثم قلبت الهمزة، فصارت بعد اللام، ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام قبلها كالأول فصار ملكاً، فجمع على قلبه، ولم يرده الجمع إلى أصله لقلة استعماله بالهمز في الواحد. ولو جمع على أصله لقال: "مَآلِكَة"، ولكن لم يسمع جمعه على الأصل.
قوله تعالى: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً }.
معناه: إني جاعل في الأرض خلقاً يخلف بعضهم بعضاً لا بقاء لهم.
وقيل: معناه: إني جاعل في الأرض خلقاً يخلفون من كان فيها ممن هلك، وذلك أن أهل التفسير ذكروا أنه روي أن الأرض كان فيها خلق من الجن فأفسدوا فيها فأهلكهم الله. والهاء في "خليفة" للمبالغة.
وقيل: دخلت لأنه بمعنى داهية في المدح والذم، بمعنى بهيمة. قاله الفراء.
وقيل: الهاء / [لتأنيث الصيغة]، وهي بمعنى فاعلة على هذا القول كرحيم بمعنى راحم. وعلى القول الأول يكون خليفة: فعيلة، بمعنى مفعولة أي مخلوقة؛ أي يخلف بعضهم بعضاً لا بقاء لهم، فكل واحد مخلوف، لأن من يأتي من بعده يخلفه، فهو كجريح وقتيل، بمعنى مجروح ومقتول.
ومعنى "جاعل" خالق ومستخلف.
قال ابن عباس: "أخرج الله آدم صلى الله عليه وسلم من الجنة قبل أن يخلقه، وقرأ { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً }. يريد أنه [قدَّر ذلك وعلمه وشاءه] قبل أن يخلق آدم.
قوله: { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } الآية.
روى كثير من المفسرين أن الملائكة علمت بفساد من سكن الأرض من الجن وسفكهم للدماء، فقالوا على طريق الاسترشاد وطلب الفائدة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ }؛ أي أيكونون مثل أولئك الذين أفسدوا؟، فسألوا مسترشدين لا منكرين، إذ لا علم عندهم بما يكون من أمر الخليفة التي أعلمهم الله أنه خالقها.
وقيل: إنهم قالوا ذلك / على طريق التعجب كما تقول العرب "أتحسن إلى فلان وهو يسيء إليك!".
وقيل: إن الله جَلَّ ذكره أذن لهم في السؤال عن ذلك. وقيل: إن الله تعالى ذكره / أعلمهم أنه يجعل في الأرض خليفة فسألوا على طريق الاسترشاد: ما يكون ذلك الخليفة؟ فقال: تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقالوا عند ذلك على طريق الاستعظام والاستثبات لا على طريق الإنكار: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } الآية.
[قيل: قالوا] ذلك على التعجب مما أعلمهم الله به من إفساد ذرية الخليفة في الأرض وسفكهم للدماء.
والله أعلم بأي ذلك كان.
فالألف في { أَتَجْعَلُ } لفظها لفظ الاستفهام ومعناها الاسترشاد أو التعجب على قول من رأى ذلك على ما ذكرنا.
وعن ابن عباس أنه قال: "كان إبليس من / حي من أحياء الملائكة، يقال لهم الجن وهم من الملائكة. خلق الله ذلك الحي من نار السموم، وخلق سائر الملائكة غير هذا الحي من نور، وخلقت الجن غير هذا الحي الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، والمارج هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وخلق الإنسان من طين. فأول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذين في الأرض فقتلوا وطردوا حتى لحقوا بالبحار وأطراف الجبال فلما فعل إبليس ذلك اعتدَّ في نفسه وقال: قد صنعت ما لم يصنع غيري، وكان من خزان الجنة. فاطلع الله على ذلك منه فقال: إني جاعل في الأرض خليفة. فقالت الملائكة غير إبليس وحيه: أتجعل فيها من يفسد فيها كأولئك، على طريق الاسترشاد. أي هل يكونون مثل أولئك المفسدين أو يكونون مصلحين".
وقيل: "قالوا ذلك على طريق التعجب، فقال الله لهم: { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }، أي إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا أنتم عليه. فخلق آدم صلى الله عليه وسلم من طين لازب، واللازب اللزج الملتصق من الحمأ المسنون، والمسنون ذو الرائحة صار حمأ حمأ بعد أن كان طيناً لزجاً. فلما خلقه تعالى مكث آدم أربعين ليلة جسداً ملقى، فكان إبليس اللعين يأتيه فيضربه برجله فيصلصل ويصوت، فهو قول الله عز وجل:
{ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } [الرحمن: 14]. ثم كان إبليس اللعين يدخل في في آدم [عليه السلام] ويخرج من دبره، ثم يقول: لشيء ما خلقت، لئن سلطت عليك لأهلكنك. فلما نفخ فيه الروح، أتت النفخة من قبل رأسه فلا تصل إلى شيء، إلا صار لحماً ودماً /. فلما انتهت النفخة إلى سرته، نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهض فلم يقدر فهو قوله تعالى: { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً } [الإسراء: 11] و { خُلِقَ ٱلإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } [الأنبياء: 37] /. فلما تمت النفخة في بدنه عطس، فقال: الحمد لله رب العالمين، بإلهام الله له. فقال له الله: يرحمك ربك يا آدم، ثم قال الله تعالى لإبليس وحيِّه من الملائكة خاصة دون غيرهم: اسجدوا لآدم فسجدوا كلهم إلا إبليس تكبراً وعزة فأبلسه الله، أي أيأسه من الخير كله، وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة له بالمعصية، ثم عَلَّم الله آدم الأسماء كلها.
قال المفسرون: عَلَّمه اسم كل شيء حتى الضرطة. وقال الله للملائكة - جند إبليس -: أنبئوني بأسماء هؤلاء: فقالوا لا علم لنا. فقال يا آدم: أنبئهم بأسمائهم، فأنبأهم آدم بأسمائهم.
وقيل: إنما عني بقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ } الملائكة الذين كانوا في الأرض بعد هلاك من كان فيها دون غيرهم من ملائكة السماوات. والله أعلم بأي ذلك كان، واللفظ على عمومه حتى [يأتي دليل تخصيصه].
قوله:
{ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة: 33].
معناه: أعلم ما أسر إبليس في نفسه من الكِبَرِ والعزة. وهذا التأويل يدل على أن الخطاب الذي تقدم في قوله: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } إنما كان من هذا / النوع من الملائكة الذين حضروا مع إبليس قتال المفسدين في الأرض دون غيرهم من الملائكة. وهو قول الطبري.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: "إن هذه القبيلة من الملائكة سميت الجن لأنهم كانوا من خزان الجنة". وهو من الاستجنان؛ وهو الاستتار. وإنما سميت الجنة جنة لأنها تَجن مَنْ دَخَلَها؛ أي تستره بشجرها وثمارها وعروشها.
وروي عنه أيضاً أنه قال: "إن إبليس كان ملك سماء الدنيا، وكان خازناً للجنة مع ذلك. فلما تمكن دخله العجب والكبر، وقال: لم أُعط هذا إلا ولي مزية على الملائكة. فاطلع الله على ما في سرِّه فقال: إني جاعل في الأرض خليفة، فسألت الملائكة عن الخليفة فقال: تفسد ذريته في الأرض فتعجبوا وقالوا: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ }. فبعث الله جبريل ليأخذ من طين الأرض، فاستعاذت منه فرجع ولم يأخذ شيئاً إجلالاً لحق من استعاذت به، ثم بعث الله ميكائيل فاستعاذت، فرجع ولم يأخذ شيئاً. فبعث الله ملك الموت فاستعاذت منه، فاستعاذ هو منها، وأخذ ما أراد من تربة بيضاء وحمراء وسوداء، فلذلك بنو آدم مختلفو الألوان".
ثم مضى الحديث كالأول أو قريب منه، غير أن فيه: "فكان آدم جسداً من طين أربعين سنة، ففزعت منه الملائكة وكان أشدهم فزعاً إبليس / وفيه: أن آدم عليه السلام لما دخل الروح رأسه، قال: الحمد لله. فقالت له الملائكة / رحمك ربك يا آدم. فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه".
وهذه الرواية تدل على أن المخاطبين المأمورين بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم هم الملائكة كلهم، وهو ظاهر القرآن.
وقد قيل: إن معنى قوله تعالى: { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي أعلم أنه سيكون من ذرية آدم أنبياء ورسل وصالحون وعباد وأخيار وساكنو الجنة.
قوله: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ }.
معناه: نعظمك بالحمد والشكر.
وقيل: التسبيح الصلاة.
وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال:
"إِنَّ للهِ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْع / مَلاَئِكَةً يُصَلُّونَ، وإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله: مَا صَلاتُهُمْ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ لَهُ: يا نَبيَّ الله: سَأَلَكَ عُمَرُ عَنْ صَلاَةِ أَهْلِ السَّمَاءِ. قَالَ: نَعَمْ، فَقال لهُ: أَقْرِئْ عَلَى عُمَرَ السَّلامَ وأخْبِرْهُ أنَّ أَهْلَ السَّماءِ الدُّنْيَا سُجُودٌ إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي المُلْكِ وَالمَلَكُوتِ. وإنَّ أهْلَ السَّماءِ الثَّانِيَةِ رُكُوعٌ إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذي العِزَّةِ وَالجَبَرُوتِ، وأَهْلِ السَّماءِ الثَّالثَةِ قِيَامٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ" .
وأصل التسبيح لله عند العرب التنزيه والتبرئة له سبحانه من إضافة ما ليس من صفته إليه.
وقوله: { وَنُقَدِّسُ لَكَ }.
أصل التقديس التطهير. ومعناه نطهر أنفسنا لك.
وقيل: التقديس الصلاة. وروي ذلك عن قتادة. وروي عن أبي صالح: "ونقدس لك، نعظمك ونمجدك.
قوله: { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }. قد تقدم بيانه.
وقد قيل فيه: إن معناه إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا عليه، إني علمت ما أضمر إبليس في نفسه من ترك السجود لآدم صلى الله عليه وسلم [ومن] عداوته له ولذريته.
وقيل: معناه إني عليم من آدم المعصية ثم التوبة عليه / وإهباطه إلى الأرض، وما يكون من ذريته إلى يوم القيامة ومن هو سعيد، ومن هو شقي منهم.
وروي أن إبليس اللعين لما رأى صورة آدم وحسنها قال للملائكة: إني أرى صورة مخلوق يكون له نبأ. أرأيتكم إن فضل عليكم ماذا تفعلون؟ قالوا: نطيع أمر ربنا، ونفعل الذي يأمرنا به. فهذا قوله: { مَا تُبْدُونَ }.
وقال إبليس في نفسه: "لئن فُضِّل علَيّ لا أطيعه، ولئن فُضِّلتُ عليه لأهلكنَّه، وهذا قوله: { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }، فلما نفخ الله عز وجل / في آدم صلى الله عليه وسلم الروح جلس فعطس، فقال آدم: الحمد لله رب العالمين فكان ذلك أول ما تكلم به آدم / عليه السلام فردَّ الله عليه: يرحمك الله لهذا خلقتك"، فهو قوله:
{ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ } [هود: 119]، أي للرحمة خلقهم.
وقال مجاهد: "علم الله من إبليس المعصية وخلقه لها".